مسألة الديموقراطية غربا وشرقا

TT

يظن الناس أن الديموقراطية هي الانتخابات. وليس هناك من مكان تزور فيه الانتخابات مثل الدول التي ليس أمام المواطن فيها إلا مرشح واحد، فلا يعود أمام المواطن إلا أن يقول (نعم) تحت عصا المخابرات وعيونها التي لا تنام. وإن زاد العدد على مرشح واحد فهو للديكور؟! وصدام المصدوم حاز في الانتخابات في خريف 2002 على 100% من الأصوات قبل أن يخسف الله به الأرض.

ويظن البعض أن الديموقراطية هي وجود مجالس تشريعية منتخبة، ولكنها لا تزيد في أغلب الحالات على ديكور يؤدي وظيفته بالشكل الذي توحي به ديناصورات الأمن. وهكذا ضغط الدستور في بلاد عربية وبسرعة كهرطيسية كي يناسب مقياس الحاكم صعودا ونزولا.

وإذا كانت الديموقراطية هي التمثيل الشعبي فهذا يعني أن اجتماع الجهلاء يجعل منهم أعقل القوم. ولكن لو اجتمع أهل مدينة على مريض مصاب باليرقان الانسدادي ما فعلوا له شيئا، مثل جراح يحرر القناة المرارية من الانسداد. وإذا كانت أمريكا تمارس لعبة الديموقراطية فقد وضع الناقد والسياسي الأمريكي اليهودي نعوم تشومسكي كتاباً كاملاً بعنوان (ردع الديموقراطية) وأن غش الانتخابات يتم بآلية سرية جهنمية. ونحن نعلم اليوم أن الناس في أمريكا لا ينتخب معظمهم. وأن من يقود الحملات الانتخابية مافيات مالية تلعب بعقول الناس وتشتري الأصوات بقوة المال والتلاعب بالضمائر، وهي التي تمكن الرئيس من القعود على ظهور العباد كما حصل مع تنصيب يلتسين، ونجاح بوش الأخير.مع هذا فإن تشومسكي سئل يوما: لماذا تفضل العيش في أمريكا طالما كانت الأوضاع بهذا السوء؟ فأجاب أنها أقل الأمكنة سوءا للجلوس فيها. وكان تشرشل يقول إن الديموقراطية أحسن الأسوأ. ونحن نعلم أن الغرب حقق قدرا من العدالة لا تقارن بالأوضاع العربية البربرية في العالم العربي. هناك مراحل تطورية لكل مجتمع. وما يحدث من تطور في العالم العربي لا يخرج عن هذا القانون. فالدول تمر بمراحل كما تفعل كل الكائنات، فتمر من الضعف إلى القوة ومن البساطة إلى التعقيد. سنّة الله في خلقه. وفي العالم العربي نحن لم نتجاوز المرحلة الأموية بعد. وهذا يعني أن الديموقراطية بمعنى التمثيل الشعبي مخاضة طويلة لم ندخلها بعد ولم نشم رائحتها، وإنها أبعد من مسيرة أربعين خريفا. والفرق بين الديموقراطيات المزورة في الغرب وديموقراطيات القهر في الشرق أن الأولى تضحك على المواطن فتشتري صوته بالمال والنفوذ والإعلام، في حين أن المواطن في الثانية يساق كالأنعام بلسع السوط وعصا المخابرات إلى صناديق الانتخابات.

النظام الأول ينفتح فيه الإنسان، ويمكن أن يعبّر ويعدّل الوضع، وهناك أمل عنده أن يتم تطوير ديموقراطية صحيحة وحقيقية، وهي عملية عضوية تطورية نامية ولو انها قد تنتكس في بعض مراحلها. أما الثاني فهو انفكاك عن محاور التاريخ والجغرافيا، وموت للأمم بيأس، ووضع لا أمل منه إلا بتدميره وتخليص الإنسان منه. ويمكن تشبيه مجتمعات النوع الأول بأنها دوائر إلكترونية يقفز فيها الإلكترون من مدار لآخر فيصدر الطاقة. أما الثاني فهو دوران في حلقة مفرغة حتى تأتي قوة خارجية من احتلال، أو طاقة داخلية ما، فتنقل الإلكترون من مداره لمدار آخر فيصدر الطاقة واللون. كما حدث في تغيير الوضع في العراق. ولا يمكن الحكم على الأشياء إلا بخواتمها ولا نعرف نهاية العراق. الخلاصة التي نصل إليها أن الديموقراطية بمعنى التمثيل الفعلي ـ كما يقول (آلان تورين) في كتابه عن الديموقراطية ـ غير دقيقة لدخول التلاعب فيها. فلا يعني شيئا أن تنتخب كومة من الجاهلين، لأنهم سينتخبون ما هو ضد مصلحتهم كما حصل في انتخاب الممثل شفارتزنيجر ذي العضلات حاكما لكاليفورنيا بسبب علاقة زواجه من عائلة كينيدي ودخوله إلى نادي أصحاب المال والنفوذ. وكان أفلاطون محقا حينما رأى أن الحكومة المثلى هي التي يحكمها الفلاسفة والخبراء. وهناك توقعات ان حكومات المستقبل قد تقع تحت سيطرة ديكتاتوريات الخبراء. نحن إذن أمام أنواع من الديموقراطيات، أبشعها ديكتاتوريات رهيبة تتلفع برداء الديموقراطية ويجب كشف الغطاء عنها كي يزول السحر. يجب أن لا تستعبدنا الكلمات والشعارات. وفي اليونان كانت كلمة الديموقراطية للأحرار وليست للعبيد. ورصيد الانتخابات هو وعي الناس أكثر من بطاقات الانتخاب. واعتبر مالك بن نبي أن الحروز والتمائم التي كانت تستخدمها جداتنا لطرد الجان تحولت في العمل السياسي إلى بطاقات انتخاب.أما الديموقراطية النسبية الحالية في الغرب فتقوم على مؤسسات وتعمل بآلية هي ليست المثالية، ولكنها أصلح الموجود لحين ظهور ما هو أصلح منها. فهذا قانون التطور في التاريخ. والحديث يشير إلى طريقة جديدة في السياسة هي الديموقراطية مقلوبة الاتجاه: «والله إنا لا نولي هذا الأمر أحدا سأله». وفي هذه الطريقة لا يرشح الناس أنفسهم بل ينتخبهم الناس لأنهم يعرفونهم. فلا ينجح في الانتخابات من يعرض نفسه، بل من يعرفه الناس أنه الأتقى والأنزه. وأما في حالة انتخاب رئيس الجمهورية فيجب الاستفادة من خبرة الأمريكيين بأن لا يدفأ الكرسي تحته في أكثر من انتخابين، ولا تزيد فترة الحكم عن ثماني سنين بحال.