دلالات تحرير الأسرى والمعتقلين

TT

نبدأ بالتعريف عن الهوية لجهتين متقابلتين لا يجمعهما شيء ويفترقان من أجل كل شيء:
الأولى: الأسرى والمعتقلون، ذنبهم دفاعهم عن الأرض والاستقلال والمستقبل، قاوموا الاحتلال لطرده فاعتقلوا في أرض المعركة أو خُطفوا من بيوتهم متلبسين بالإيمان بالله وبقضيتهم، هم الثلة الخيِّرة التي يذكرنا كل شيء فيها بفلسطين والمقدسات، هم الصفوة الطاهرة التي جسَّدت معنى الإنسانية والأصالة، هم البقية المنيرة التي بددت ظلمة الاستسلام والخديعة والانهزام.

الثانية: المعتدي، اسمه الكيان الإسرائيلي، هو غني عن التعريف، فبصماته منتشرة في كل بيت وحي وشارع ودسكرة، ممهورة بالأحمر لتغيِّر الألوان، ملأ الدنيا أزمات ومآزق، روَّع السلم العالمي بأطماعه وعدوانه، أسَّس للجريمة الدائمة في كل يوم وساعة ولحظة، يقتل الطفل والشيخ والمرأة ويهلك الحرث والنسل والجماد، لا عهود له ولا مواثيق، يأخذ أرض الغير ويسلب راحة البشرية بإرهابه.

ما الذي حصل؟ صفقة تبادل بين مقاومين ومحتلين، أسرى ومعتدين.

ليست عملاً عادياً يجري في كل يوم، إنَّه حدث استثنائي يؤرخ لمحطة تاريخية هامة في حياة الأمة وعزتها. ليست تبادلاً بين متفقين، إنَّه انتزاع للحرية من غاصبيها. ليست خطوة ناجحة بالظروف الملائمة، إنَّها مدماك يُزرع في الأرض مثبتاً للمنهج المقاوم.

وما هي الدلالات؟

1 ـ اعترفت إسرائيل ومَن وراءها بعدم الاستهانة بمن يقابلها، وأذعنت للثمن المرتفع، وهي تعلم ما ستكسبه المقاومة الإسلامية من رصيد ودور وتأثير ورمزية، لكنها تخشى من المستقبل، فلعلَّ هذا الثمن يدفع الأعظم، ولعلَّه يغطي بعض مشاكل الداخل. إنَّ التبادل خطوةٌ من خطواتٍ رأسها تحرير الجنوب والبقاع الغربي (باستثناء مزارع شبعا) في أيار 2000، وقد أكدت أن المقاومة فعلٌ ناجح، فهي قادرة على فرض وجودها رغم الضغوطات، وهي مؤهلة لكسب معركة المستقبل رغم التضحيات، فلا داعي لنتعب أنفسنا بالبحث عن شرعية المقاومة في أروقة الأمم المتحدة أو الدول الكبرى، فهؤلاء لن يعترفوا بها لأنها تُعارض مصالحهم وتعيق استغلالهم للشعوب والخيرات، وسينعتونها بالإرهاب لتسهيل عزلها فضربها فإنهائها! إذاً ماذا نفعل؟ لقد تعلمنا من المقاومة والإنتفاضة الفلسطينية الشريفة والتحرير والتبادل أنَّ تعريف المقاومة بـ«العمل»، وتعريف الإرهاب بـ«السلوك»، فلا نفع لإطالة الأمد بانتظار التعريف الدولي، فها هو العالم اليوم يقف إجلالاً لحرية نتجت عن المقاومة التي أحبها الناس ووجدوها معبرة عن إنسانيتهم وكرامتهم.

2 ـ قبل اسر الجنود الثلاثة ورابعهم عقيدهم، لم يستمع إلينا أحد! ولم يسمع أحد صراخ الأسرى وأهاليهم! لكن بعد ذلك: تحرك العالم، تعرفنا على ديبلوماسيين كثر لم نكن نعرفهم عرضوا علينا وساطتهم من أجل الأربعة، وصدرت تصريحات مكثفة لدواع إنسانية بضرورة عودتهم إلى أهاليهم! فكنا نذكرهم بالدواعي الإنسانية لمعتقلينا في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وهم مضطرون للاستماع.

كانت المفاوضات شاقة وصعبة لثلاث سنوات، بالتهويل والضغط واستحضار الصور الخطيرة، لكننا أصحاب حق، فالآلاف من الأسرى والمعتقلين لا يجدون لهم نصيراً في العالم المتحضر، ولا تتكرر المطالبة بهم، ولا تُفرض عقوبات سياسية واقتصادية على إسرائيل من أجلهم، ولا تكلف دبلوماسية الكبار نفسها لمجرد المطالبة بهم. أدركنا أنَّ الحلَّ بأيدينا، ولا تنقصنا الحنكة والدراية والقوة السياسة والعلاقات ومستلزمات المواجهة خاصة عندما يرافقها إيمان قوي بنصر الله «وكان حقاً علينا نصر المؤمنين»، ما يشحذ الهمم ويقوي العزيمة للصمود والصبر، فلنستخدم ما عندنا وبأيدينا في الطريق الصحيح لنصل إلى مبتغانا.

3 ـ الصفقة رابحة بكل المعايير، فالمحررون منتشرون على امتداد البلاد العربية من نقطة القلب الفلسطيني كتأكيد على الهم المشترك والقضية الواحدة المترابطة، فجميعهم أُخذوا بسببها من عدو واحد، وأُفرج عنهم بالضغط على هذا العدو، والأعداد كبيرة، فمن الأحياء 435 يمتدون إلى عائلاتهم وأبنائهم وأرحامهم وجيرانهم وأهل بلداتهم، ومن الشهداء 59 من أطياف المقاومة بقواها وأحزابها اللبنانية والفلسطينية للتأكيد بأن ما جمعته الشهادة لا يفرقه أحد وهو رباط قوي متين، ومن الذين كُشف مصيرهم 24 لتبديد بعض القلق والحيرة، فمن مات منهم فإلى جنان الخلد، ومن بقي التحق بالركب مجدداً، وخرائط الألغام تبدد ذعر الأهالي وتعطل سلاح المكر ليرتاح الجميع من عبء مستور. أراني أجد كل عربي ومسلم وشريف في العالم يفرح لما جرى، إنَّه انتصار ثانٍ كبير للناس، للشرفاء، للمحبين، لحقوق الإنسان، للمقاومة والانتفاضة، للبنان، لفلسطين وقدسها.

فالجميع شركاء، وقد آن لنا ان نتعلم، أن اختلافنا على القشور ضيَّع الأصول، ومنازعاتنا على المكاسب الضيقة ضيعت الأوطان، وأعمالنا لإلغاء الآخرين لم تُبقِ لأحدنا مكانة فضلاً عن الآخرين. لا حلَّ إلاَّ بسيادة الأولوية للتحرير على ما عداها، فلا استقرار مع الاحتلال، ولا حدّ للتنازلات التي يطلبها العدو، ولن يتمكن فريق أن ينوب عن الآخرين ليتكلم نيابة عنهم او يواجه نيابة عنهم، كل الأيدي مطلوبة، وكل الطاقات مناسبة، حتى ولو اختلفت في بعض رؤاها، فلننظم الاختلاف في خدمة الهدف الأكبر بدل أن نضعه عائقاً يضيِّع الهدف. وإذا غضضنا النظر عن هفوات بعضنا لمصلحة قوتنا المشتركة فسنصبح أقوى في مواجهة الاستحقاقات مهما كبرت.

فلسطين فلسطينية وعربية وإسلامية وعالمية، فلتفكر كل جهة بما تعطيه، فتكبرُ فلسطين وتكبر هذه الجهة لا أن تكون فلسطين معبراً للأطماع والصفقات والمساومات، فهي لا تتحمل أن نأخذ منها وإلاَّ خسرنا ما اخذناه وخسَّرناه لفلسطين. وكذلك الانتفاضة والمقاومة هي وطنية وعربية وإسلامية ولجميع الأحرار، تحمل الجميع وتريدهم ليساهموا في التحرير، لكنها لا تتحمل أن تُختزل بأحد، فمن اختزلها اختزل نفسه وأعاق تألقها، ومن اعطاها صابراً محتسباً ربح وربح الجميع من فيضها لا على حسابها، لتبقى عنواناً للمرحلة، فلا وجود لعنوان آخر يملك فعاليتها.

4 ـ لسنا عاجزين، بإمكاننا ان نحقق الكثير، شرط أن نعرف ما نريد وأن نكون مستعدين لثمن التضحيات من أجل التحرير. لقد سادت ثقافة الاحباط والهزيمة، بإظهار قوة العدو والاعتذار بضعفنا، وسارع البعض من «أصحاب النصيحة»! واعظين بأن قبولنا بإسرائيل ومطالبها يحل المشكلة، وإذا احتلت من دون مقاومة، فالأمل كبير بألا توسع احتلالها وأن تتخلى عن بعض فتاته «لنحيا»!

علمتنا التجارب، بأننا إذا لم نمتلك أوراق القوة بأيدينا فلن يحترمنا أحد، ولن يعيد لنا حقنا أحد، وأننا إذا لم نقاوم بما استطعنا من قوة فلن تعود لنا أرض أو مقدسات، وأننا إذا لم نُسمع العدو والعالم أصواتنا بكل معانيها فلن نتمكن حتى من التعبير. لن نقول بأن التكلفة بسيطة فالتضحية كبيرة جداً، إلاَّ أنَّ بإمكاننا الآن المقارنة بين مسارين: أحدهما روَّج طوال الفترة الماضية للدبلوماسية والقبول بالتنازلات واستباق الآخرين بتخفيض أسقف المطالب لاسترضاء إسرائيل ومَن وراءها، وهي لا ترعوي، وثانيهما قاوم وقدَّم الشهداء والتضحيات فحقق نصراً باندحار إسرائيلي من لبنان، وتحرير للأسرى، وانتفاضة منعت انهاء قضية فلسطين بعطاءات الشعب الفلسطيني المجاهد. وبالمقارنة بينهما فنحن بحاجة إلى استمرار المقاومة والانتفاضة مع الاستفادة من كل أشكال العمل السياسي الهادف والحنكة والدراية وبناء كل العلاقات الملائمة مع دول العالم وفي المحافل الدولية، لا على قاعدة السقف المتنازل عن الأرض، بل على قاعدة التمسك بكل حبة تراب، بالاستفادة من الظروف الدولية، والصبر عند هبوب رياح الضغط الأميركية، وعدم صرف المعركة عن مسارها خارج أولوية التحرير، وعدم استعجال النتائج فلكل شيء أوانه.

إنَّ من الذين رموا أوراقهم خوفاً مما هو أعظم، أتاهم ما هو أعظم مما لو بقيت أوراقهم بأيديهم.

إنَّ تجربة «حزب الله» في المقاومة والعمل السياسي والاجتماعي ملك للأمة وليست له وحده، ليقبل الناس منها ما شاءوا ويرفضوا ما شاءوا، كتجربة لها مقدماتها وأساليبها ونتائجها، كجزء من رصيد كل الأمة، هكذا نريدها، وهي كذلك في عملية التبادل الكبيرة، بدلالاتها وأبعادها التي يُستقى منها الكثير للاستفادة والتصويب باتجاه تعزيز الأمل بقدرتنا على الفعل الناجح.

* نائب الأمين العام لـ«حزب الله»