نحو أفق صعب لحل الصراع مع إسرائيل

TT

أدلى المؤرخ الإسرائيلي بني موريس بحديث نُشر في الملحق الأسبوعي من صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية الصادرة بتاريخ 8/ 1/ 2004.

وحديث بني موريس «الابوكليبتي» (الأخروي) سيطر عليه المنطق التناقضي فأخرج صاحبه من عقلانية الأكاديمي الناقد للصهيونية إلى لاعقلانية الأيديولوجي (في حالتِه: الصهيونية)، فهو من جهة ينتقد أول رئيس وزراء إسرائيلي، ديفيد بن جوريون، لعدم قيامه «بالتنظيف الكلي» لفلسطين من سكانها العرب، ومن جهة أخرى يتعاطف مع الفلسطينيين كون قدرهم جعلهم ضحايا الصهيونية، ثم يعود ليعتبرهم جزءاً من كُلٍ عربيٍ همجي يجب وضعهم في أقفاص.

والسؤال الذي يطرح نفسه يكمن في كيفية رد المثقف العربي على مثل هذه الأقوال؟

إن حديث بني موريس هذا لا يستمد أهميته من شخصية بني موريس كمؤرخ إسرائيلي معروف، بل من كون أقواله تمثل توجهاً خطابياً له ممثلون ومؤيدون ليس فقط في تل أبيب وواشنطن بل في كافة العواصم الغربية. ويرى هذا الخطاب أن هناك حضارة غربية تحوي قيماً إيجابية أهمها الديمقراطية والحرية واحترام حقوق الإنسان واحترام المرأة واحترام حق الحياة. تقف هذه الحضارة الغربية أمام حضارة عربية ـ إسلامية لم تُخرج غير قيم سلبية مثل الديكتاتورية وإهدار الحريات العامة واضطهاد المرأة وتفضيل الموت على الحياة.

من هنا رأيت في مقالي هذا أن لا أقدم ردا على مثل هذا الخطاب بأبعاده الغربية، بل سوف أُحصره في شقِه الإسرائيلي المتمثل في آراء بني موريس.

وبداية فاني أرى أن طريق الخلاص من دوامة الصراع العربي ـ الإسرائيلي إما أن يكون عسكرياً أو ان يكون سياسياً، وحيث إنني لستُ من المؤمنينَ بالحل العسكري لهذا النزاع، أود التركيز على الحل السياسي السلمي، والاعتراف بالحل السياسي لا يعني أن يُكلف المثقف رجال السياسة بالأمر ويأخذ هو موقع المشاهد. فللمثقف العربي مسؤولية وهي الحلقة المفقودة التي من خلالها قد نصل إلى حل للنزاع العربي ـ الإسرائيلي في طوره الحالي. ومسؤولية المثقف كما عرّفها المثقف اليهودي ـ الاميركي نعوم تشومسكي تكمُن في وقوف المثقف ضد التيار وطرح الإجماع والثوابت للبحث والتنقيب، وهذا بالضبط ما يقوم به تشومسكي اليوم في معارضته لاجماع وثوابت الادارة الاميركية مما يجعله يلاقى بترحيب كبير في العالم العربي، ولنترك تشومسكي ونلتفت للمثقف العربي مُسلِطينَ الضوء على وضعيته في الصراع العربي ـ الإسرائيلي.

وللحق أن المثقف العربي قد وُظّفَ وَوظفَ نفسه في خدمة رجال السياسة، وأصبح على المثقف تسويق القرار السياسي في الشارع العربي. وبدلاً من البحث والتنقيب في الإجماع العربي الرافض أيديولوجياً لإسرائيل، شارك المثقف العربي في صياغة هذا الإجماع مُصراً على نفي الوجود الإسرائيلي ورفض أي بديل للحل العسكري. ومع كل هزيمة عربية لم يكن للمثقف العربي ليقف وقفة مع الذات، بل أخذ يبحث عن الحجج والبراهين التي تجعل من الهزيمة تارة نكبة وتارة نكسة جاءت كنتيجة لتآمر القوى الإمبريالية مع العصابات الصهيونية ضد قوى التقدم العربية. وفي إطار هذا الدور التوظيفي قام المثقف العربي بشيطنة إسرائيل ومحو أي صورة ايجابية للتراث اليهودي في الحضارة العربية ـ الاسلامية، بل واختزال كل ما هو يهودي في صورة الإسرائيلي الصهيوني المغتصب للأرض والعرض. فمن منا يعرف الفرق بين صهيونية اليهودي المجري تيودور هرتسل ووطنية اليهودي المصري هنري كوريل، أو بين صهيونية ديفيد بن جوريون وصهيونية مارتين بوبر؟

واليوم بعد فشل مشاريع التحرر العربية، آن الأوان للمثقف العربي أن يتحرر من الخطاب القومي الفاشل والديني الراديكالي وصياغة خطاب ليبرالي يتم في إطاره أنسنة الآخر عامة والإسرائيلي خاصة لكوننا نعيش في منطقة واحدة. والأنسنة تعنى رؤية الآخر الاسرائيلي كانسان يخضع في أحكامنا عليه لمقاييس العقل والعقلانية، غير ان هذه الأنسنة لا يمكن تحقيقها إلا إذا تغيرت المفاهيم العربية ومنها على سبيل المثال:

أولاً، أن الصراع العربي الإسرائيلي ليس صراع حق عربي ـ فلسطيني ضد باطل إسرائيلي، بل هو صراع حق فلسطيني ضد حق إسرائيلي. هذه الثنائية يمكن لها أن تكون القاعدة التي على أساسها يمكن للطرفين بمساعدة عربية ودولية إيجاد الحل السلمي المناسب.

ثانياً، إن أنسنة الآخر الاسرائيلي تعني الاعتراف بمعاناته. ولقد عانى اليهود على مر العصور وأخذت معاناتهم ابشع الصور تحت الحكم النازي الالماني متمثلة في المحرقة التي تم في إطارها حرق ستة ملايين يهودي لا لجرم اقترفوه بل لكونهم يهوداً. وقد دأب المثقفون العرب على التشكيك في معاناة اليهود، فأخذ فريق منهم على عاتقه نفي حدوث المحرقة وفريق صاح يمجد في هتلر وآخر يرى الذنب ذنب اليهود فيما حدث لهم ويفتح البوابة العربية على مصراعيها أمام منكري المحرقة من الاوروبيين صانعاً منهم أبطالاً ومغاوير لحقوق الانسان، وأمتلأت المكتبات العربية بالغث من الكتابات المعادية للسامية. ورفض المثقف العربي للمحرقة نتج عن استنباط خاطئ يقوم على أساس أن الاعتراف بمعاناة الآخر يقلل من الكارثة الفلسطينية المتمثلة في النكبة. والعكس هو الصحيح، اذ أن الاعتراف العربي بكارثة المحرقة ضد الشعب اليهودي كجريمة ضد الانسانية سوف يعطي المحرقة إطاراً انسانياً بشرياً يظهر العرب فيه مصداقية حينما يعرضون قضاياهم امام الرأي العام الاسرائيلي والعالمي.

ثالثاً، إن أنسنة الخطاب الموجه للآخر الاسرائيلي تحتم على المثقف العربي تنقية هذا الخطاب من الكثير من المصطلحات التي تقف كعائق امام عولمة هذا الخطاب، فهناك الكثير من المصطلحات العربية المفضلة للذات العربية والمقللة من شأن الآخر مما يُخرج الخطاب العربي عن اطار العقلانية ويدفعه الى ديماغوغية غير مقصودة.

ونعود في نهاية هذا المقال لبني موريس مؤكدين ان الدعوة لخطاب عربي يؤنسن الآخر سوف تساعد على خلق شرق أوسط تغلب عليه القيم الانسانية، مما سوف يخفض أصواتاً أمثال بني موريس.

فهل المثقف العربي أهل للخطاب المؤنسن؟

* باحث أكاديمي بجامعة لايبزج الالمانية