زمان الريل (3)

TT

لم تكن السكك الحديدية وقطاراتها مبعث وحي للشعراء الشعبيين ومغني المواويل والعتابات فقط، بل أثار وجودها وعملها اعجاب شعراء الفصحى ايضاً. يأتي في مقدمتهم معروف الرصافي بتلك القصيدة التي علمونا اياها في المدارس. يظهر انه شعر بالذهول وهو يرى الماكنة البخارية، ماكنة جيمس واط، تشخر وتزمجر، وتنفخ وتشمخ، ثم تجر وراءها ذلك الحمل الثقيل من العربات، فلم يتمالك الشاعر غير ان يقول فيها هذه القصيدة التي ذكرت اخانا نجدة فتحي صفوت، بما قاله عنترة العبسي في وصف جواده.

وقاطرة ترمي الفضا بدخانها

وتملأ صدر الأرض في سيرها رعبا

لها فنخر يبدي الشواظ تنفساً

وجوف به صار البخار لها قلبا

تمشت بنا ليلاً تجر وراءها

قطاراً كصف الدوح تسحبه سحبا

فطوراً كعصف الريح تجري شديدة

وطوراً رخاء كالنسيم اذا هبا

تساوى لديها السهل والصعب في السرى

فما استسهلت سهلاً ولا استصعبت صعبا

طوت بالمسير الأرض طياً كأنها

تسابق قرص الشمس ان يدرك الغربا

بالاضافة لما قاله عنترة العبسي، انه امرؤ القيس هنا يصف حصانه ويقول:

مكر مفر مقبل مدبر معاً

كجلمود صخر حطه السيل من عل

عفا الله عنك يا زمان الريل في العراق. اقول ذلك بعد أن حوله الاهمال الصدامي وعبث الاشقياء الى اكوام من الحطام.

ارجو ألا تتحول السكك الحديدية العراقية الى مجرد ذكريات واجزاء من التراث والفولكلور. فما من وسيلة مواصلات تشد البلد وتدعم وحدته الوطنية وتقرب بين فئات الشعب كالسكك الحديدية. إنها هي التي تربط المدن مع بعضها البعض، وترفد المدينة بأريافها، وتفتح الطريق للغني ليطلع على احوال من هم اقل حظاً منه مثلما تكشف الغشاوة عن عين الفقير ليرى ان الفقر ليس نصيب الجميع. فالقطار ومحطات الانتظار عالم واحد تلتقي فيه الاضداد ويجري الحساب.

جرى في السنوات الأخيرة تراجع على نطاق عالمي في استعمال السكك الحديدية. اخذ الناس يعتمدون على سياراتهم الخاصة للمسافات القصيرة وعلى الطائرات للمسافات البعيدة. لكن هذا الاتجاه بدأ يكشف عن انيابه التي راحت تمزق البيئة وتلوث الجو والهواء وتكثف الازدحام وانسداد الحركة في المدن.

بدأت الحملة للنهوض بالسكك الحديدية التي توفر الوقود والنفقات وتصون البيئة.

اكتشفوا في افريقيا ان استعمال الشاحنات والحافلات من أهم عوامل انتشار مرض الأيدز. فحيث توجد هذه الوسائط، يوجد سائقوها بعيداً عن زوجاتهم، وحيث يتواجد هؤلاء السواق توجد المومسات.

إحياء شبكات السكك الحديدية في العراق هدف مهم من الناحية البيئوية والوحدوية والصحية والأخلاقية. وفي بلد لا يحرص فيه سواق السيارات ومالكوها على الالتزام بقواعد المرور والسلامة والصيانة يصبح السفر بالقطار خير وسيلة للوصول سالماً في الموعد المحدد، أو ما يقترب من الموعد المحدد.

وباحياء السكك الحديدية نكون قد أحيينا جزءاً جميلاً من تراثيات السفر الفولكلورية.