حزب الله: لماذا يغامر «التنظيم» ولا يغامر النظام؟

TT

400 أسير فلسطيني، 36 أسيرا لبنانيا وعربيا، و 59 جثة شهيد. حصيلة وفيرة مكنت تنظيم «حزب الله» من احتلال المسرح السياسي، واحتكار المشهد الإعلامي مدة أسبوع، على الأقل، في منطقة حافلة بمسلسل لا ينتهي من الأحداث والمشاهد المثيرة.

النصر الذي حققه «التنظيم» أثار سؤالا بديهيا في مخيلة الشارع العربي المفعم بالمرارة: كيف ينجح «التنظيم» في خطف هذا النصر من شدق اسرائيل، ولا ينجح «النظام»، نظام عرفات مثلا، الذي عجز الى الآن عن اقناع اسرائيل بالإفراج ولو عن قطاع يسير من سبعة آلاف معتقل وأسير؟

الجواب طويل ومعقد سياسيا وفلسفيا. والتفسير والأسباب قد تكون في النهاية مقنعة للنخبة العقلانية في الرأي العام، لكن أشك في ان تقنع شارعا عاطفيا غاضبا إزاء جمود «النظام» وتردده وامتناعه عن مجاراة «التنظيم». والشارع، عادة، غير قادر على إجراء حسابات الربح والخسارة المعقدة.

في المبتدأ، كما يقول أشقاؤنا السودانيون، لا بد من «المغامرة» المستمرة كأساس لحركة «التنظيم» وعمله السياسي، لكي يبقى حاضرا على المسرح السياسي والإعلامي. غامر تنظيم «الإخوان» في قتل رئيسي وزراء في الأربعينات المصرية، ثم حاول اغتيال زعيم الثورة الناصرية، لكي يثبت انه قادر على التفكير بما لا يمكن التفكير به.

لكن «المغامرة» السياسية أو العسكرية قد تنجح وقد لا تنجح، بحكم كونها عملا متهورا وجريئا. و«التنظيم» وحده يتحمل مسؤولية مغامرته. اغتال التنظيم العسكري للسوريين القوميين رجل الجيش السوري العقيد عدنان المالكي في عام 1955، لكن «النظام» عاقب «التنظيم» والحزب في حملة مطاردة بلا هوادة.

النظام لا يستطيع ركوب «المغامرة» كركيزة لمشروعه أو عمله السياسي. السبب لأنه يحكم دولة ومسؤول عن استقلالها وسيادتها. وفي الوقت ذاته، فله فيها مكاسب ومصالح واحتكارات إدارية وسلطوية لا يرغب في التضحية بها.

من هنا، فتنظيم عرفات قادر بـ «المغامرة» المحسوبة وغير المحسوبة على مصالحة النظام (الاسرائيلي) في أوسلو، أو تحديه ومحاربته كما تفعل التنظيمات الفلسطينية الأصولية. وكلتا المغامرتين غير مأمونتين. فقد انتهت الأولى الى وضع «نظام» عرفات في قفص «المقاطعة»، فيما عرّضت العمليات الانتحارية المنظمات الى الملاحقة والتصفية، وربما عرضت القضية الفلسطينية الى خسارة أكبر.

النظام العربي كف عن ركوب «المغامرة» العسكرية في مواجهة اسرائيل. وتوصل من خلال اتفاقات هدنة وصلح وسلام الى «تسكين» الجبهات. أقنع حساب الجمع والضرب والطرح النظام بأن اسرائيل متفوقة عسكريا وتقنيا نتيجة للدعم الأميركي لها، فباتت قادرة على إلحاق الهزيمة بالجيوش العربية مجتمعة على جبهات المواجهة خلال أيام معدودات، وفرض هدنة دولية غير عادلة عليها.

ربما كان «النظام» العربي قادرا على إلحاق الهزيمة بإسرائيل، إذا استمرت الجيوش النظامية في القتال أسابيع أو أشهرا أخرى، لأن مجتمعا اسرائيليا تمت عسكرته للقتال أياما معدودات، لا يستطيع خوض حرب استنزاف لمدة ثماني سنوات، كما فعل الجيشان العراقي والايراني.

لكن النظام العربي يقبل سريعا بالهدنة، لأنه لا يستطيع حماية المجتمع المدني، ولا تحمل مسؤولية الخسائر التي تلحقها بالمدن والمدنيين آلة عسكرية عدوة متفوقة لا تحسب في همجيتها أي حساب انساني. في حرب اكتوبر، رأيت الطيران الاسرائيلي يغير على قلب دمشق منزلا بها خسائر بشرية ودمارا سكانيا. وتعرضت الاسماعيلية والسويس والقنيطرة ثم بيروت الى خسائر مماثلة.

النظام العربي لا يرغب في ركوب «المغامرة» أيضا بإطالة أمد المواجهة العسكرية، وحتى لو كان نصره فيها محتملا. فمصالحه ومكاسبه الهائلة معرضة لخطر الزوال. خسارته في المواجهة الطويلة قد لا تعرضه فحسب الى مهانة الهزيمة أمام العدو الخارجي، وإنما أيضا تعرضه للانتقام والمطاردة والمحاسبة من خصومه وأعدائه في الداخل.

هذه الذرائع التي يقدمها «النظام» غير مقبولة لدى «المنظمة والتنظيم»، وهي ذرائع «انهزامية» لدى الذين لا يحسبون حساب المواجهات العسكرية غير المتكافئة. لكن عندما ركب «تنظيم» القاعدة رأسه، وحول حلف «المجاهدين» الأفغان مع أميركا الى حرب مقدسة عليها، وغامر بتحديها في عقر دارها (حادث 11 سبتمبر)، تم تشريده وتفكيك خلاياه. ولولا فصل الأمن عن السياسة في المنطق الأميركي، لما تمكن «التنظيم» من استغلال المرارة السياسية للسباحة والاختباء في مجتمعات متعاطفة نسبيا معه.

هذا هو مصير «التنظيم» عندما ينطح برأسه سقف «المغامرة» غير المحسوبة. مصير نظامه الطالباني كان أسوأ. فعندما قدم «النظام» الحماية والمأوى لـ «التنظيم»، وتحدى العصر والعالم بتطرفه وانغلاقه، تم إسقاطه بقوة الشرعية الدولية. ثم ما لبث أن لحق به نظام صدام لركوبه «المغامرة» الغبية غير المحسوبة.

والآن، لماذا تسهل معاقبة «النظام»، وتصعب معاقبة «التنظيم»؟!

لأن النظام كيان يتجسد في دولة ماثلة على الأرض. الدولة لا يمكن إخفاؤها أو التستر على حركتها وسياساتها. النظام اللبناني كدولة لا يستطيع جيشه خطف ثلاثة عساكر اسرائيلية. فهو يواجه فورا رد فعل أعنف من نظام معادٍ أقوى. بل هو الى الآن لم يتمكن من إقامة منظومة ردع جوي ضد الطيران الاسرائيلي السابح في سمائه.

هذا السؤال يقود الى سؤال آخر عن الفرق بين تركيب «النظام» ونسيج «التنظيم». النظام يفكر بمنطق الدولة الباحثة دوما عن أمنها واستقرارها. الدولة تعرف انها كيان يضم مؤسسات وأجهزة قائمة علنا. ومهما كانت سرية الدولة وانغلاقها، فهي تبقى نوعا ما كيانا خاضعا لرقابة المجتمع الصامتة، ولرقابة العالم بتقنياته التجسسية التي لم تبق لدى الدولة/ النظام سرا.

أما «التنظيم» فهو يفكر بمنطق التحدي أو الثورة. فهو منظمة أقرب الى السرية في تركيبها منها الى حزب مفتوح ومهيأ للحوار مع نفسه ومع الآخرين. التنظيم أشبه بميليشيا عسكرية الطاعة فيها مفروضة، وحركتها خفيفة وسهلة التخفي والمناورة والقيادة. وبالتالي يسهل ربط «التنظيم» بـ «النظام»، بحيث يصبح أداة له في أداء المهام التي لا يرغب في القيام بها.

إيران الخمينية كسبت حرب الثمانينات المخابراتية ضد المخابرات الغربية التي اشتعلت على أرض لبنان، نتيجة اعتمادها على تنظيمات شيعية مجهولة. غير أن العلاقة بين «التنظيم» و«النظام» ليست دائما ناجحة وخادمة للغرض المشترك، و«مغامرة» التنظيم غير المنضبط قد تورط نظامه بإحراجات دولية كثيرة. كانت مصر دولة المواجهة الوحيدة التي لم تقم لحسابها «تنظيما» فلسطينيا، ولذلك بقيت علاقتها الفلسطينية أكثر تجردا وحيادا وقوة، من دول تحملت عبء امتداداتها التنظيمية الفلسطينية وتجاوزاتها.

لقد تعلم تنظيم «حزب الله» من التجربة التصرف بتعقل كبير على الساحة اللبنانية. عندما لوح بمشروع الدولة الدينية جوبه باستحالة طائفية. عندما حاولت بعض عناصره العبث بأمن النظام تلقت ضربة على اليد من القوات السورية. وهو اليوم يحصر نشاطه في احتكار الاحتكاك ومشاغلة اسرائيل على الحدود، وفي إدارة الخدمات الخيرية التي تمولها إيران، ثم في تقديم إعلام يبدو أكثر تقنية فنية وموضوعية من الانكشارية العربية الإذاعية والتلفزيونية.

لكن ماذا عن مستقبل «التنظيم»؟

إذا حدثت مصالحة وتسوية بين «أنظمة» المنطقة، فأمام «حزب الله» خياران: إما تفكيك عسكريته والاندماج كحزب مدني في مجتمع لبنان الطائفي بديمقراطيته الشكلية، وإما مواصلة حمل الشعار الأصولي لتحرير آخر حبة تراب في «ديار الإسلام» المحتلة. ولعل في ذكاء حركته يتخذ قراره وموقفه في ضوء التطورات التي ستطرأ على نسيج «النظام» انطلاقا من بر إيران وصولا الى شاطئ فلسطين ولبنان.

يبقى الرأي العام العربي منقسما. هناك نخبة تدرك وتتفهم الظروف والتهديدات الخارجية بعقلانية الأقلية وموضوعيتها. وهناك شارع عاطفي غاضب مشدود بمرارة خيباته الى جاذبية «التنظيم» في «مغامراته» الخطرة ضد «النظام» والعالم معا. باختصار أوضح وأصرح، فالعرب يعيشون حالة تناقض غير عادية بين سلام «الأنظمة» و«جهادية» التنظيمات.