الفيدرالية ومستقبل العراق

TT

منذ قيام ما يسميه القانون الدستوري «دولة فعلية» في كردستان العراق ـ أي دولة منفصلة من دون أن تحظى بالاعتراف الدولي ـ والأكراد يشترطون «الفيدرالية» لاستمرار بقائهم ضمن العراق، حتى أنهم اقترحوا ـ عام 2002 ـ على المعارضة العراقية أن يكون اسم العراق الجديد «جمهورية العراق الفيدرالية».

الغريب أن المشروع الكردي للفيدرالية في العراق ليس له نظير، أو بالأحرى ليس له أساس في القانون الدستوري، وبالتالي فلا مثيل له في أي من بلدان العالم التي تأخذ بالنظام الفيدرالي.

فالفيدرالية تنشأ بأحد أسلوبين: الأول، اتحاد دولتين أو أكثر، والثاني، ينتج عن تفكك دولة بسيطة (موحدة) إلى عدة دول تنتظم في اتحاد يجمعها. ولا ينطبق أي من الأسلوبين على حالة العراق، فالإقليم الكردي لم يتمتع بالشخصية الدولية بل ظل جزءاً من العراق.

وتقوم الدولة الفيدرالية على مبدأين هما: مبدأ الاستقلال، حيث تستقل الأقاليم في إدارة شؤونها، فلها دستورها وهيئاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية الخاصة بها، والتي تملك حق تعديلها بحرية ضمن الحدود المقررة في الدستور الاتحادي، ومبدأ المساهمة، ومضمونه أن تساهم الدول او الأقاليم الأعضاء في تكوين القرارات التي تُلزم الاتحاد بكامله.

أما «الفيدرالية» التي يطالب بها الأكراد فستجعلنا أمام «حكومة إقليمية» للأكراد و«حكومة مركزية» للعراق، أي أننا أمام شكل من أشكال الدولة البسيطة التي يقوم على جزء من أراضيها «حكم ذاتي موسع»، أو أننا أمام تنظيم إقليمي جديد للدولة البسيطة يقترب إلى حدٍ ما من تنظيم الدولة الاتحادية، وهو ما لا يمكن تسميته بالفيدرالية.

أما إصرارهم على تسمية ذلك بالفيدرالية، فيبدو أن القصد منه جعل «الحكومة الإقليمية» الخاصة بالإقليم الكردي موازية أو مساوية للحكومة الاتحادية، أو بعبارة أدق جعل الأكراد يملكون نصف الأصوات في «تكوين القرارات التي تلزم الاتحاد بكامله»، وبالتالي فإن العراق بكله سيكون رهينة لخُمسه، وهي نسبة الأكراد من الشعب العراقي، أو أقل من ذلك قليلاً.

إن الفيدرالية تعني ـ وإلا فسنكون أمام نظام الدولة البسيطة لا الفيدرالية ـ تقاسم جميع المناصب الاتحادية بين الأكراد من جهة وكل العراقيين من جهة أخرى، أي أن خُمس الشعب العراقي (19 أو 18%) سيتمتع بنصفٍ مساوٍ تماماً لما يتمتع به أربعة أخماس الشعب العراقي، وهو أمر سيثير ـ بالتالي ـ مشاكل جمّة في مستقبل الأيام، وسيصل الأمر ـ في ظل أوضاع العراق الهشة ـ إلى الاختلاف حتى على أقل الوظائف أهمية.

وهو ما حصل بالضبط عند تقاسم الحزبين الكرديين المناصب في الحكومة الكردية في التسعينات.

فقد اختلفوا حتى على وظيفة الخادم المكلف بتقديم الشاي للضيوف في الدوائر الرسمية، وتقاتلا وسقطت الآلاف من الضحايا، ثم أنشأ كل منهما حكومته الخاصة به والمستقلة تماماً عن حكومة الآخر، فكانت حكومة الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني في السليمانية، وحكومة الحزب الديمقراطي الكردستاني في أربيل.

اللافت للانتباه أن أعضاء مجلس الحكم الحالي يحاولون مجاراة الأكراد في مطالبهم، وذلك بسبب الدعم الأمريكي للعامل الكردي في العراق، وقد استثنى الأمريكان الميليشيات الكردية من قرار حل التنظيمات العراقية المسلحة، بل وقرروا دمج هذه الميليشيات في «الجيش العراقي الجديد» و«قوات حرس الحدود».

وعموماً فإن الأكراد ـ ومن خلال كيانهم المستقل منذ عام 1991 ـ هم القوة المنظمة الوحيدة على أرض العراق، والتي تملك الأموال والسلاح والفضائيات.. الخ، مما جعل الجميع يسعون لكسب رضاهم.

باختصار شديد، أن الأكراد في العراق اليوم هم الوحيدون الذين يعرفون ماذا يريدون، والذين يقتربون يوماً فيوماً من أهدافهم. أما الآخرون فهم كما يقول المثل الشعبي «كالأطرش في الزفة»، ولا أريد أن أمضي في الحديث عن ذلك الأمر فيبدو كما لو أنني استهزئ بهذا أو ذاك.

وتبدو قضية «كركوك» التي يعتبرها الأكراد جزءا من كردستان، القضية الأكثر تفجراً في المشروع «الفيدرالي» الكردي. فأغلب سكان مدينة كركوك ـ الواقعة على بعد 280كم شمال بغداد ـ كانوا من الأقلية التركمانية التي تشكل 2% من سكان العراق، ثم شهدت كركوك ـ بعد نمو صناعة النفط فيها ـ هجرة من المناطق الكردية التي تقع شمالها حتى أصبح الأكراد عام 1959 ثلث سكانها. وبعد انقلاب 17 تموز 1968، حاول نظام البعث بإجراءات مختلفة تغليب العنصر العربي عليها. وكان العرب يشكلون ـ عام 1959 ـ حوالي ربع سكانها.

ولو احتسبنا النسب السكانية في محافظة كركوك كلها، أي مدينة كركوك والمناطق التابعة لها ـ كما يطالب الأكراد ـ فان نسبة الأكراد فيها سنة 1959 بحسب أكثر الأرقام الكردية غلواً هي 48%، وهي نسبة لا يتفق معهم أحد في العراق على صحتها سوى الحزب الشيوعي العراقي.

إن إعادة الأكراد الذين هُجروا من مدينة كركوك، وهم أصلاً من المهاجرين إليها خلال الخمسين سنة الأخيرة، والدعوة إلى ترحيل العرب الذين قدموا أو استقدموا (بمغريات) إلى كركوك خلال الثلاثين سنة الماضية ـ كما يُطالب عضو مجلس الحكم نصير الجادرجي ـ هو أمر تعسفي. فإذا تم ترحيل هؤلاء العرب ـ وهم اليوم يتعرضون في كركوك إلى مخاطر شتى ـ فيجب عدم إعادة الأكراد الذين هُجروا من كركوك إليها.

ويجب القول هنا إن هجرات سكانية كبيرة حدثت في طول العراق وعرضه لأسباب اقتصادية واجتماعية وبأشكال مختلفة خلال الثلاثين سنة الأخيرة، كالهجرة إلى بغداد والمدن الكبرى، أو الهجرة من الريف إلى المدينة، والهجرة إلى المدن المقدسة.

كذلك أن الخطأ لا يُعالج بخطأ، أي أن تهجير الأكراد سابقاً لا يبرر تهجير العرب اليوم. وإذا كان اللجوء إلى أوربا وأمريكا قد جعل الكثير من الأكراد ـ وكذلك العرب ـ يستقرون هنا ويفضلون البقاء على العودة، حتى منهم من لم تكتمل شروط لجوئه فأنه يرفض أن تعيده الدولة التي يعيش فيها، فما ذنب العرب ـ مثلاً ـ الذين ولدوا في كركوك خلال الثلاثين سنة الماضية وعاشوا فيها ولا يعرفون مدينة أخرى لهم غيرها أن يُرحلوا منها وهي في كل الأحوال جزء من بلادهم العراق.

إن الحل الأمثل للمشكلة القومية في العراق ـ والتي زادها نظام صدام تعقيداً وتفجيراً ـ هو في منح الأكراد في محافظاتهم الثلاث: (السليمانية، أربيل، دهوك)، حكماً ذاتياً موسعاً وأن تلحق بها أية منطقة ذات أغلبية كردية إذا أرادت ذلك. ومنح الأقليات القومية والدينية (التركمان، الكلدان، السريان.. وغيرهم) والذين تتراوح نسبتهم جميعاً بين 5 ـ 7% من مجموع الشعب العراقي، حقوقهم الثقافية والدينية كاملة. وتحقيق سيادة القانون وتكافؤ الفرص أمام الجميع، وإقامة ديمقراطية حقيقية، ومنح المحافظات «لا مركزية إدارية»، وتصفية السياسات العنصرية والقومانية للنظام السابق، من دون الإساءة للأغلبية العربية، أو القيام بسياسات تهجير جديدة كما يُبيّت لعرب كركوك.

بقي أن نقول إن لا معنى للتهديد بأن عدم القبول بالفيدرالية سيدفع الأكراد إلى تقرير مصيرهم بأنفسهم، كناية عن الانفصال.

فوحدة العراق ـ اليوم ـ ليست خياراً كردياً، بل هي خيار أمريكي ودولي وإقليمي مفروض على الأكراد.

في الجانب الآخر، أن كل الذين لعبوا بالورقة الكردية في العراق من الدول المجاورة وأمدوها في الماضي بالمال والسلاح، ها هي ترتد عليهم وتصبح هاجساً لهم.

*كاتب وحقوقي عراقي (مؤلف كتاب على حافة الهاوية: العراق 1968 ـ 2002).