لا العراق إيران .. ولا السيستاني خميني

TT

جاء موضوع السجال الدائر حاليا في العراق، حول الدعوة لاجراء الانتخابات، لتشكيل المجلس التأسيسي المرتقب، مناسبة اثارت الكثير من المخاوف، بشأن احتمالات تكرار تجربة التجربة الايرانية، خاصة ان من ابرز الذين يتبنون نظرية الانتخابات ويصرون عليها، هو المرجع الديني الأعلى المقيم في مدينة النجف الاشرف، آية الله العظمى علي السيستاني من جانب، وكون الاكثرية في العراق، وهم من الشيعة، أعلى الآخرين صوتا في تبني الدعوة.

ان الكثير ممن يرفض فكرة الانتخابات المبكرة، سواء من الساسة العراقيين او من قادة التحالف الأميركي، لا يقصدون برفضهم، أصل الفكرة التي لا يختلف عليها اثنان، باعتبارها ابرز شواهد أية ديمقراطية في العالم، كما انهم لا يرفضونها لاستحالة تنفيذها، وانما يعنون برفضهم، من يقف وراءها ويتبناها. وقد سمعت من بعض من تحدثت اليهم، من يقول ان القبول بالفكرة، يؤسس لسابقة خطيرة في العراق الجديد، ولمنهج خاطئ لا يجوز التورط فيه، لأن أي تنازل لصالح الفكرة، هو تنازل للسيستاني، مما يعني منحه حق الوصاية بامتياز على الحياة العامة، والذي يعني، فيما يعني، تمكين علماء الدين من أداء الدور الأول والاساس في الحياة السياسية العراقية الجديدة.

ويضيف بعضهم: لو جاءت الفكرة من مصدر آخر، لأمكن دراستها، وربما الأخذ بها وتنفيذها، اما وقد نطقت بها المرجعية الدينية، فمن غير الممكن أبدا، حتى مجرد التفكير فيها ومناقشتها، فضلا عن الأخذ بها والتنازل عن بقية الطروحات، لأنها ستمنح المؤسسة الدينية، الوصاية وحق النقض ـ الفيتو ـ على كل المجريات السياسية في العراق الجديد، مما يعني تعبيد الطريق لتكرار التجربة الايرانية في حكم رجال الدين، وهل يعقل ذلك؟ يتساءلون بعصبية.

ما مدى صحة هذا الكلام؟ وما مدى صحة مثل هذه المخاوف؟

شخصيا، لا اخفي تفهمي لبعض هذه المخاوف وتعاطفي معها، لأننا، وبصراحة، لا نريد ان نرهن العراق الجديد وشعبه بيد رجل واحد، مهما كان موقعه الاجتماعي، لأن ذلك يتناقض كليا مع مبادئ الديمقراطية، كما يتعارض مع نظرية الشورى التي يتبناها الإسلاميون المتنورون في العراق. ولكنني، في نفس الوقت، أرى ان هناك تهويلا وتضخيما كبيرين في جانب كبير من هذه المخاوف، خاصة عندما يقارن موقف السيستاني مع سلطة علماء الدين في التجربة الايرانية، والتي اجزم ان لا أحد يحب ان تتكرر، بأية صورة من الصور، في العراق، كونها تجربة لا يحسد عليها اصحابها. وما اخشاه هنا، هو التوظيف السيئ في التهويل لهذه التخوفات من اجل اجهاض الجهود الرامية للانتقال الى الديمقراطية في العراق، من خلال وضع العصي في عجلة عملية التحول الديمقراطي التي تسير بشكل متنام، وإن كان بطيئا. فلا العراق ايران ثانية، ولا السيستاني خميني آخر، وذلك للفروق التالية:

أولا: ليست في العراق أغلبية مطلقة لأية شريحة من شرائح المجتمع، كما هو الحال بالنسبة الى المجتمع الايراني، الذي يشكل فيه الشيعة، النسبة المطلقة تقريبا اي اكثر من 96 في المائة.

ثانيا: لا يتبنى الشيعة نهجا سياسيا واحدا، او حتى منهجا مرجعيا واحدا، ولذلك لا يمكن إدراجهم جميعا ضمن تيار واحد، عند حساب تأثير التيارات السياسية.

ثالثا: في العراق قوى وتيارات قومية وليبرالية عديدة لا يمكن لأحد تجاوزها او تجاهل تأثيرها في الساحة السياسية، فضلا عن فرض اجندات سياسية خاصة ومحدودة. وموضوع الانتخابات مطلب تبنته ودافعت عنه مختلف شرائح المجتمع العراقي، بغض النظر عن انتماءاتها الدينية او المذهبية او القومية، او حتى اتجاهاتها الفكرية والسياسية.

رابعا : ان تعاطي المرجعية الدينية في العراق، بالشأن العام، وابداءها لرأيها في القضايا السياسية، لا يعنيان بالضرورة، أبدا، الدعوة الى اقامة نظام حكم ديني على طراز التجربة الايرانية، فهناك فرق كبير وشاسع بين الدعوة الى احترام الدين وآراء علمائه وفقهائه في مختلف القضايا العامة، وبين الدعوة الى تبني نظرية اقامة نظام ديني. حتى اكثر التيارات المرجعية تطرفا في العراق، نفت ان تكون قد دعت الى اقامة مثل هذا النظام، لا على اساس التجربة الايرانية، ولا على أساس غيرها من التجارب، فضلا عن ان السيستاني، عارض تدخل رجال الدين في الامور التنفيذية بشكل مباشر، والاكتفاء بدور التربية والتوجيه والنقد والمراقبة.

لذلك، فان تعاطي العلماء والفقهاء والمراجع بالشأن السياسي العام، هو من باب ممارسة حقهم الطبيعي، كمواطنين، في المشاركة السياسية، والتي يكفلها أي نظام ديمقراطي قيد الانجاز في العراق، ليس اكثر.

خامسا: اذا كان الايرانيون قد التفوا حول الخميني ضمن سياق تاريخي طويل، واطاعوه في كل طروحاته السياسية التي كان يتقدم بها الى المجتمع الايراني بكل فئاته، فان العراقيين لم يلتفوا حول السيستاني، الا بصفته مرجعا دينيا، يشخص أفضل الطرق الممكنة لصيانة حقوقهم، من الانتهاك او التجاوز، فهم لم يتبنوا مشروعه حول الانتخابات مثلا، بصفته زعيما سياسيا أو قائدا لثورة شعبية، او ما اشبه، بقدر ما يعتبره العراقيون، لسان حالهم في المطالبة بحقوقهم السياسية، في اطار دعوة الاحتلال لإقامة الديمقراطية في العراق الجديد.

سادسا: اذا كان الخميني قد قاد ثورة شعبية شاملة ضد نظام الشاه السابق، مما منحه الحق المطلق في التصرف بشؤون البلاد، وبلا منازع ـ حاله حال كل قادة الثورات في العالم ـ من خلال ما كان يرسمه للآخرين من خطوط حمراء في العلاقة مع الولايات المتحدة، التي اعتبرها الخميني الشيطان الاكبر، فان الامر يختلف كليا بالنسبة للعراق. فلا أميركا شيطان اكبر في وجهة نظر العراقيين، وهي التي ساعدتهم على التخلص من نظام المقابر الجماعية، الشمولي الديكتاتوري البائد، ولا السيستاني او غيره، قاد لوحده ثورة شعبية أسقطت الحكم البائد، ليحدد الخطوط الحمراء للآخرين.

سابعا: اذا كان الخميني قد حرم على اتباعه والملتزمين بنهجه السياسي، التعامل مع الولايات المتحدة، كونها العدو اللدود للشعب الايراني، وان العلاقة معها تشبه الى حد بعيد علاقة الذئب بالحمل الوديع ـ على حد وصفه، فان العمامة الشيعية العراقية دخلت البيت الأبيض من دون احراج، كما انها جابت أروقة المؤسسة السياسية الأميركية منذ مطلع العقد الأخير من القرن الماضي ولحد الآن، مما يعني انفتاحها على العلاقة مع الولايات المتحدة، من جانب، وعدم تأثرها بالاستراتيجية السياسية للنظام الايراني، من جانب آخر. ان كل ذلك وغيره الكثير من الشواهد، يشير الى ان المرجعية الدينية في العراق تختلف جذريا في استراتيجيتها السياسية، بشأن العلاقة مع دول المجتمع الدولي، وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة، عن تلك التي تبناها الخميني.

ان رؤية الصورة كما هي، وقراءة الواقع كما هو، من دون تهويل او تضخيم، تقللان من الأزمة، وتقدمان خدمة تاريخية كبرى للعراق والعراقيين.

* مدير مركز الإعلام العراقي ـ واشنطن