تاهت الأسئلة ونحن مشغولون بكراهية الغرب

TT

إن بلادنا لا بد أن تتغير ويتجدد بها من العلوم ما ليس فيها، «الشيخ الازهري حسن العطار (ت 1835م) استاذ رفاعة الطهطاوي، ملخصا درس الاحتكاك بالحملة الفرنسية على مصر.

في فاتحة الحديث نطرح هذا السؤال الكاشف: هل أحسن المسلمون المعاصرون اختيار الاسئلة الصحيحة المتصلة بقلب المشكلة؟

هل صرفت طاقة التفكير في الاتجاه الصحيح، وهل كنا نبحر في متن السؤال ام نخوض في هوامشه؟

لقد كان رواد النهضة العربية والاسلامية هم الذين وقع على عاتقهم استقبال (الصدمة) الحضارية التي سببتها لهم حملة بونابرت والانكشاف الكبير المعري امام الغرب الظافر، لكن، وعلى حد جورج طرابيشي، لم يكن لهذه اللحظة الباهرة اثر التدمير، قدر أنه اثر الايقاظ والنفض، لقد كانت صدمة ولم تكن (رضة)، لقد كانت شحنة الصدمة مورثة لطاقة تنبيهية ضمن حدود احتمال الجسم المصدوم، وعليه فهي سبب للتحريك والاثارة، بكلمة: هي سبب للبعث والحياة الخلاقة.

لكن، وبعد حين من الدهر، ولاسباب تاريخية وظروف سياسية متعددة كان ابرزها هزيمة حزيران 67، تحولت الصدمة الى رضة، وهنا نحن ننتقل من الاحتكاك الموقظ الى التدمير الداخلي، ولا نصبح ازاء آليات دفاع تتمثل وتهضم وتوظف من اجل الاقلاع والنهوض، كما في حالة الصدمة الموقظة، بل تنطلق الاليات الشعورية واللاشعورية للدفاع المرضي والعزوف عن التعرف على الواقع والاستعلاء عليه وتوهم الامتلاء والاكتفاء، والغاء العقل النقدي، والدخول في عالم الشعر وعقل الشعر واستجابة الشعر... كأن الشعر كلما توهج احرق فتيل النقد العقلي!

من هنا كان تعاطينا المرضي مع الغرب، او كما يقول طرابيشي ايضا، اللواذ الطفلي بالتراث، وتحميله امال الخلاص ووظائف الحماية الابوية. لقد انكفأ المثقفون العرب الى التراث بشكل شبه جماعي، بعد هزيمة حزيران 67 خوفا من الانكشاف، وهربا من رؤية الواقع المر، واقع الهزيمة الكبرى وتهاوي احلام النهضة العربية، فقد كان جمال عبد الناصر، بشكل او بآخر، تجسيدا لمشروع النهضة العربي، او هو الجانب السياسي من هذه الاحلام العربية. لقد انكسر وانطفأ بريق الحلم والتوثب من عينيه بعد خطاب التنحي الشهير. وعلى حد محمد عابد الجابري فما «أن وقعت هزيمة 1967 حتى اخذ الخطاب العربي ينتكص الى الوراء لا ليتحصن في مواقع صلبة بروح الواقعية الثورية، بل ليركن الى اطلال الماضي يستعيد حلم النهضة وسط كابوس الهزيمة».

والغريب انه، وبضغط من رضة الهزيمة والانحسار، وقعت جردة حساب كاملة من مفكري النهضة وعصر النهضة، واصبحت ادانة ماضي التخلف، غير محبذة، بل هي تبديد واضح لرصيد المقاومة، وافقار واضح لمخزون الامة الثقافي امام الغرب.

فأصبح التراث، الذي كان محل غربلة، ومحطة يسهل المرور منها لدى النهضويين، سفينة النجاة الوحيدة والاب الحامي من الوحش الغربي الكاسر فـ«لا يمكن ان ننطلق الا من التراث والتراث هو مصدر الابداع الوحيد» طبقا لعدو الغرب الاول جلال امين، وصار «الارتباط بالتراث يعني ان تنشأ مدارسنا الجديدة وفق المعتقدات الاولية نفسها التي قيدت نظرة القدماء... من هنا ضرورة تقديس التراث طريقا للنهضة» حسب وارث فكر مصر الفتاة عادل حسين، ولأن الغرب هو التحدي الاكبر والاعظم، يصبح التراث، في معركة التحدي مع الغرب، مخزوناً ثقافياً عظيم الاهمية. كما يقول عبد الله النفيسي. هذه الأسطرة والنظرة التي تمنح التراث القدرة الكلية وتهبه مزايا عظمى، هي دلالة بالغة على حجم وفداحة الدمار النفسي الجماعي الذي اصاب الذات العربية المفكرة، وعليه فهو عصاب نفسي عربي جماعي، كما يؤكد الناقد جورج طرابيشي الذي استقينا هذه الامثلة منه، ويشير الى التفسير النفسي لهذه النظرة الاعلائية للتراث لدى المثقفين العرب، بالاتكاء على مؤسس التحليل النفسي الاجتماعي جيرار ماندل «ان الطفل يميل ميلا طبيعيا الى أمثْلة الراشد، الى اعارته كلية قدرة سحرية» وبقلب المعادلة تصبح الصياغة هكذا «حيثما أعير الراشد كلية قدرة سحرية، اثبت من يعيره اياها أنه... طفل!».

ربما أطلنا في الإطلال على اساس القطيعة المرضية التي اصابت عقلنا الجمعي في التعاطي مع الغرب ومنجزه، هذا صحيح لأنه يجب تبين كم نحن محكومون بآثار الرضة النفسية التي هيجت العصب العاري، وعبثت بحواف الجرح النرجسي الكبير، نحتاج الى ان ننأى قليلا عن الجرح حتى نرى ما هو ابعد منه! إن اسلوب التعاطي مع مسألة الديمقراطية، او وضع المرأة، او انتقال المجتمعات الاسلامية الى نمط المجتمع الانساني، ولا اقول الغربي، الحديث، يتسم، أعني الاسلوب، بقدر لافت من التهيج، واستحضار الغرب الغازي اللاهث الذي تتقطر أنيابه شهوة للانغراس في جسد الحضارة الاسلامية.

جرب، أيها القارىء، ان تذكر موضوعا معينا حول الاصلاح والتطوير دون ذكر لامريكا او الغرب، ثم أشر، ولم من بعيد، الى فيلسوف او روائي او شاعر او مفكر امريكي، ولو كان من ابناء القرون الماضية، ستجد انك خسرت من كان مرشحا لتأييدك. وهذا التعاطي الخندقي مع الغرب وامريكا ليس طارئا او مجلوبا بعنت، إنه يمور تحت القشرة الرقيقة، ويختزن تحته طبقات كثيفة من الإرث التصادمي، وصورا مقولبة عن الآخر الرومي والصليبي... هل نذكر فرنسا التي كانت موضع الارتياح بعد موقفها (السياسي) المحض من حرب العراق، ثم وانطلاقا من نفس الاعتبارات المصلحية، منعت الحجاب والعلامات الدينية من مدارسها، فأصبحت راعية الصليبية، وعدوة المسلمين. وكان الحديث عن فرنسا الثانية اسخى واصدق من الحديث عن فرنسا الاولى. نعم اننا مشغولون بالغرب عن انفسنا، غارقون في هجائه لدرجة العمى عن تبصر الذات، وبسبب من هذا العداء التالد والطارف، تقوقعنا، ومجد كثير من مثقفينا هذا التقوقع الحامي من الغرب، وصارت شواغلنا من نوع: حجاب الفرنسيات، تماثيل باميان، اسلمة العلوم، شورنة الديمقراطية، وانحصر تطورنا في تحديث التخلف وتنمية التقهقر.

لم تعد المقارنة المحزنة بيننا وبين العالم المتمدن والمتعلم تثير فينا حوافز التقدم، وميكانزمات التحديث، لم تعد الحداثة (الملعونة!) بؤرة اهتمامنا، اصبح التمسك بالاصالة هو روح روحنا!

كيف استطعنا قتل ارادة التقدم فينا، كيف همشنا المتن، ورقينا الهامش!؟ لماذا غيبنا الاحساس بالمشكلة الحقيقية عن عقولنا وعن حسنا الجماعي.

كيف سيرى ابناء البشر، مستقبلا، قيمة ماشغلنا انفسنا به؟ ولماذا دائما هناك حالة من التهيج عند ملامسة، او محاولة ملامسة المشكلة العربية والاسلامية في مكمنها الحقيقي بعيدا عن الاجنبي، ولماذا كلما كان المجتمع اكثر احتفاء بقصة الاصالة الحضارية والهوية والمحافظة... الخ كان ابعد واغرب عن التقدم العلمي والحضاري، هذه ليست فرضية، هذا واقع مشاهد، تذكروا طالبان، فقط طالبان وقيسوا عليها!

اختم لكم بهذا المثال الذي يشرح العلاقة الطردية بين التقوقع وطبيعة التفكير والرؤية، مذيع يسأل سؤالا سياسيا صرفا: من الرابح من صفقة تبادل الاسرى بين حزب الله واسرائيل؟ معظم الاجابات كانت كلاما طائفيا عن حزب الله! والبسطاء، الذين شاركوا في هذا البرنامج، هم خير معبر عن الفكر الخام دون تزويقات المنظرين المخفية للبثور.

نحن لا نحسن طرح الاسئلة ولا تحديد المشكلة، ونحن مشغولون بكراهية الغرب عن نقد انفسنا، واخيرا نحن مأزمون نفسيا وفكريا في علاقتنا بالتراث، وفي علاقتنا بالغرب. نحن كل هذا، والمشكلة اننا لانعترف بشيء من هذا!

[email protected]