من الذي يخشى الديمقراطية في العراق؟

TT

شاركت قبل ايام في برنامج اذاعي، طرح مستمعون من خلاله اسئلتهم هاتفيا، حول «انزلاق العراق الى حالة من الفوضى»، على حد ادعائهم. ويرى هؤلاء انني ايدت تحرير العراق، وأن الوضع الآن يتسم بالفوضى وعدم الاستقرار. وتابع بعضهم في نفس الاتجاه معددا سلسلة الاحداث التي وقعت، بما في ذلك تظاهرات الشيعة ومطالبة الاكراد بالحكم الذاتي، واستياء المسلمين السنة، فضلا عن الصراع بين مختلف الاحزاب السياسية في وسائل الإعلام حول شكل الدستور المستقبلي للعراق.

وجهة النظر التي تؤكد باستمرار على سيادة الفوضى في العراق تتردد بصورة متكررة من خلال تصريحات العديد ممن فعلوا ما بوسعهم لتطويل أمد حكم النظام البعثي السابق في بغداد. فوزير الخارجية الفرنسي دومينيك دوفيلبان يردد، على نحو مستمر، ما يصفه بـ«عدم الاستقرار والصعوبات» التي تواجه العراق. إلا ان الحقيقة هي ان العراق لم ينزلق الى حالة من الفوضى ولا في طريقه الى حرب اهلية كما يشيع البعض. العراق بدأ في واقع الامر مسيرته باتجاه ان يصبح مجتمعا عاديا، والمجتمعات العادية، كما يدرك دوفيلبان، تواجه في بعض الحالات صعوبات وعدم استقرار كما يحدث لكل البشر.

من الواجب، في تقديري، الترحيب بالظهور التدريجي للحياة السياسية العادية في العراق، بعد قرابة نصف قرن من الحكم الاستبدادي الوحشي، بما في ذلك 35 عاما من الحكم الدموي للنظام البعثي.

الهدف الرئيسي للحرب في العراق، من وجهة نظري، على الاقل، يتركز في ايجاد الاوضاع التي تسمح للشيعة بالتظاهر في بغداد والبصرة من دون ان يحصدهم رصاص جنود النظام الحاكم، وهي نفس الاوضاع التي تسمح للأكراد بالمطالبة بالحكم الذاتي من دون ان يتعرض الآلاف منهم للقتل بالغازات السامة، كما حدث في حلبجة في ظل نظام الرئيس المخلوع صدام حسين.

لعله امر ايجابي ان يصدر آية الله العظمى علي محمد السيستاني فتاوى، وهو ما لم يكن يستطيع فعله خلال حكم صدام حسين، كما انه تطور ايجابي ايضا ان يعلن الذين يختلفون مع السيستاني في الرأي عن وجهات نظرهم من دون ان يتعرضون للقتل من جانب المتشددين.

ولماذا لا يستاء المسلمون، من اتباع المذهب السني، اذا شعروا بأنهم لن يحصلوا على نصيب عادل في العراق الجديد؟ وما هو الخطأ في ان يعلن الاكراد انهم شعب له لغة وثقافة خاصة بل له معتقداته الدينية الخاصة، وأنه يجب ان يسمح لهم بالتالي بالتطور والنمو في إطار هويتهم؟

ما يحدث على وجه التحديد هو ان التنافس السياسي في العراق الآن يحدث على درجة غير مألوفة من الاحترام، وهو ما لا يحدث حتى في اكثر الديمقراطيات نضوجا. (اقرأوا ما قاله هاوارد دين عن جورج بوش).

سيشهد العراق الجديد، خلال عملية نشوئه وتطوره، صعوبات وعدم استقرار. وهذا هو على وجه التحديد المبرر لحرب تحريره. فقد واجه العراقيون خلال حكم صدام حسين عدم استقرار، ومعسكرات اعتقال ومقابر جماعية. استمرار العنف والارهاب سيزيد من صعوبة الاشياء، غير ان الارهاب لا يستطيع بأية حال عرقلة مسيرة العراق نحو التطبيع.

فالعراقيون اصبحوا الآن احرارا في مناقشة كل جوانب حياتهم الفردية والجماعية. وشأنه، شأن بقية المجتمعات العادية، تتباين وجهات النظر فيه حول مختلف القضايا، إلا ان الحقيقة تكمن في ان اصحاب وجهات النظر هذه باتوا يعبرون عنها من دون خوف، وهذا واحد من الانجازات الايجابية لتحرير العراق.

تتضمن الديمقراطية حرية التظاهر، وعلى وجه الخصوص ضد من هم في مواقع المسؤولية، وتوجيه الانتقادات العنيفة المتبادلة عبر اجهزة الإعلام في المناظرات السياسية.

تتضمن الديمقراطية ايضا الصعوبة المتمثلة في الوصول الى إجماع حول القضايا الرئيسية. ذلك ان الانظمة الاستبدادية وحدها هي التي تفرض تسوية القضايا المعقدة بإشارة فقط من الحاكم.

المتتبعون لتطورات السياسة في العراق يدركون ان العراق هو البلد العربي الوحيد حاليا الذي يحتوي على كل ألوان الطيف السياسي، وحيث وجهات النظر والمواقف يعبر عنها بحرية وانفتاح، مع التنافس على كسب النفوذ والسلطة على اساس ما تجده الآراء والمواقف المطروحة من قبول وتأييد.

حتى البعثيون، الذين تم حل حزبهم رسميا بعد تحرير العراق، بدأوا في التجمع في بعض الاندية المحلية.

ترى، ما هي قضايا الجدل السياسي في العراق حاليا؟

فيما يلي بعضها:

* يريد العرب من أتباع المذهب السني وصف العراق بأنه «جزء من الامة العربية» على اساس مبدأ العروبة، على العكس من الاكراد الذين يؤكدون على ضرورة ان ينص دستور البلاد على وصف العراق بأنه دولة بها قوميتان، أي العرب والأكراد. فيما يرفض الشيعة، الذي يشكلون نسبة تقدر بـ60 بالمائة من سكان البلاد، صيغة الدولة ذات القوميتين، ويطالبون بدلا عنها بما يمكن ان نطلق عليه «العروكة»، وتتوافق مع الشيعة في ذلك اقليات اخرى بما في ذلك المسيحيون.

* يرغب الاكراد في ان يصبح العراق دولة فيدرالية، حتى يصبح بوسعهم التمتع بالحكم الذاتي في مناطقهم، فيما يعارض ذلك الشيعة والسنة على حد سواء، على اعتبار ان «الفيدريشن» يتكون في الاساس من اتحاد دول كانت موجودة اصلا. إلا ان العراق وُحّد كدولة واحدة عام 1921، ولا يمكن ان تكوّن هياكل ونظم اتحادية من لا شيء. يضاف الى ذلك ان ثمة حاجة الى وجود دولة مركزية لإدارة عائدات النفط وتنظيم استخدام موارد البلاد.

* بعض الاحزاب، السنية منها والشيعية، تريد ان يجري الاعتراف بالاسلام كدين للدولة في الدستور الجديد، وهذا ما عارضته اطراف اخرى، بما في ذلك احزاب يسارية تريد إقامة نظام علماني.

* بعض الاحزاب تريد انسحاب العراق من منظمة البلدان المصدرة للنفط (اوبك) وجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي، والسعي بدلا عن ذلك الى إقامة صلة بالاتحاد الاوروبي. إلا ان بعض الاطراف تعارض ذلك وتصر على ضرورة ان ينص دستور العراق الجديد على الحفاظ على علاقات العراق الخارجية التقليدية.

* عدد من الاحزاب والشخصيات تريد ان يتضمن دستور العراق مادة حول السلام والتعاون مع كل الشعوب، اذ يرون ذلك خطوة باتجاه الاعتراف بإسرائيل في نهاية الامر، فيما يصر آخرون على ان العراق لا ينبغي ان يعترف بإسرائيل إلى حين التوصل الى حل بشأن القضية الفلسطينية.

* ثمة خلافات عميقة إزاء الفلسفة الاقتصادية. فالأكراد وبعض العرب السنة يسعون الى إقامة دولة يكون القطاع العام فيها مسؤولا عن تقديم الخدمات الاساسية مجانا. الكثير من الاكراد يرغبون في نظام اقتصاد السوق الحر، بغرض التمهيد لانضمام العراق الى منظمة التجارة العالمية.

* هناك خلافات ايضا حول نظام الانتخابات. ففيما يفضل الاكراد والعرب السنة نظام التمثيل النسبي مع تطبيق اجراءات تحول دون استغلال الشيعة لقواعد الاغلبية بغرض فرض ارادتهم، يقول الشيعة انهم يريدون نظاما انتخابيا يعطيهم 70 بالمائة من المقاعد في أي برلمان مستقبلي في البلاد.

غالبية هذه القضايا ظلت تواجه العراق منذ خروجه من مظلة الامبراطورية العثمانية ليصبح دولة قومية قبل سبعة عقود. الحكومات الاستبدادية المتعاقبة التي حكمت العراق حاولت كبت هذه القضايا، إما من خلال إنكار وجودها او إخماد أي جدل يدور حولها.

لا شك في انه كان بوسع التحالف الذي يسيطر حاليا على العراق، بقيادة الولايات المتحدة، اللجوء الى الاستبداد بفرضه لإجماع زائف، ولكن عدم لجوئه الى ذلك يعتبر في حد ذاته نقطة ايجابية تحسب لصالحه.

الاجماع الحقيقي ربما يكون صعب التحقيق، إلا ان الامر المؤكد هو ان العراق سيشهد ممارسة سياسية وجدلا سياسيا اكثر حيوية، بما في ذلك التظاهرات وحرب المنشورات الى حين التوصل الى تسوية حول كيفية تشكيل حكومة انتقالية، والتوصل الى طريقة للتعامل مع مهمة صياغة دستور البلاد.

غالبية الشخصيات والرموز السياسية العراقية تلجأ باستمرار الى سلطات التحالف للمطالبة بأخذ آرائهم ووجهات نظرهم في الاعتبار وفرضها بتفويض رسمي. يجب ان يبتعد التحالف عن اللجوء الى إملاء الشروط، كما يجب ان يمتنع عن إقامة أي تحالفات موازية. فالشعب العراقي بمختلف عناصره يمكن اعتباره صديقا للولايات المتحدة وحلفائها.

ويبقى القول ان على التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة قبول حقيقة ان الطريق الى الأمام سيكون شاقا، إلا ان هذه ليست اخبارا سيئ بالضرورة، ذلك ان الديمقراطية لا تعدو ان تكون رحلة عبر طرق وعرة.