ثقافة اللامعقول: لماذا هذا الربط بين أميركا والمشروع الإصلاحي؟

TT

لماذا يركز الكاتب غالبا على الظواهر السلبية في المجتمع؟ لأن السالب هو الذي يشكل الخطر على الحاضر والمستقبل. عندما نرى في ثقافة «الدروشة» خطرا على عقل وفكر المجتمع العربي، فإنما نخشى على الإسلام من أن يتعرض لما يتعرض إليه تحت شعار «الإصلاح» في إيران. جردت المؤسسة التيوقراطية الحاكمة المناهج التربوية من الاطلاع على مناهج الفكر الإنساني، وقصرتها على اجتهادات وتفسيرات النقل عن القديم، ودروشت المجتمع تحت مطارق إعلام الشعائر (الطقوس) والتلقين والتحفيظ. فماذا كانت النتيجة بعد ربع قرن؟ لقد أنتجت الدولة التيوقراطية جيلا جديدا رافضا لها ولكآبتها الاجتماعية والثقافية. لكن الخطر، في بعض أجنحة الحركة الإصلاحية الإيرانية، يتمثل في تحميل الدين مسؤولية فشل المؤسسة الحاكمة والناطقة باسمه. الجيل العربي الراهن لم يصل بعد إلى مرحلة «الخطر السالب» الذي وصلت إليه الأجيال «الإصلاحية» الإيرانية. لا يمكن انتزاع الدين من الهوية العربية، وإلا حدث فراغ عميق في النفس والذات. لكن هل تدرك الأصوليات المختلفة خطر «البعد السالب» لدروشة المجتمعات العربية؟

ثقافة اللامعقول تتجلى في هذا الخلط المتعمد بين تعديل المناهج والكفر والتكفير. الإسلام بخير. الإسلام دين صريح متماسك. تعديل المناهج التربوية لن يطال المقدس والثابت في الإسلام، وبالتالي فدمغ تهوية المناهج والانفتاح على العلوم الاجتماعية والإنسانية بالكفر والعلمنة «الإلحادية» لا يندرج إلا في ثقافة الخلط اللامعقول التي نعيش.

خلط آخر لا معقول بدأت تعاني منه ثقافتنا التربوية. فقد أُدرجت «مادة السلام» في المناهج والكتب التعليمية في بعض الدول العربية، بحجة إشاعة ثقافة السماح والتسامح. السلام مع من؟! إذا كان السلام شوقا إلى نشر ثقافة التطبيع مع إسرائيل، فلماذا كل هذا الحنين وإسرائيل ما زالت تحتل أراضي دول عربية، وتقضم الضفة قطعة وراء قطعة؟! لماذا نعلن على إسرائيل السلام وهي ما زالت تعلن علينا الحرب؟

نفعل ذلك من أجل إرضاء خاطر أميركا؟ وحتى أميركا تفرض علينا ثقافة الخلط، ثقافة اللامعقول! تأتينا مرة باسم النفط، ومرة باسم أمنها «المهدد» بالقومية العربية، أو بالشيوعية، أو بالإرهاب الديني، ومرة تغزونا بحجة غازات صدام وأسلحته الاستراتيجية المزعومة، فإذا لم تعثر عليها قالت إنها غزتنا لإشاعة ثقافة الإصلاح والديمقراطية!

خلط في خلط. ننتقل من ثقافة الوصاية على مجتمع متدروش.. هكذا فجأة وبلا مقدمات، إلى ثقافة الانفتاح والإصلاح والديمقراطية، ثقافة اللامعقول، ثقافة لا نعرف فيها ما لله، وما لقيصر، وما للسلام، وما لأميركا، وما لإسرائيل.

أترك المناهج والتربية والتعليم والسلام والتطبيع، لأسأل عن الإصلاح. منذ أن مات جيل سياسي وبتنا محكومين بجيل آخر ونحن نتحدث عن الإصلاح. منذ الغزو الأميركي للعراق، تحول الحديث إلى ثقافة. نحن نعيش اليوم ثقافة الإصلاح دون أن نعرفه ونلمسه! ما هو هذا الإصلاح؟ كيف الإصلاح؟ أين حدوده؟ هل هو تغيير، تطوير، ثورة، قلب بالعنف أو بالسلم للأنظمة أم للمجتمعات؟ لا نعرف. كلنا نسير في «تظاهرة» الإصلاح. نلوك الشعار، ولا نعرف ما هي مطالبنا بالتفصيل والتحديد.

أضرب مثالا واحدا على ابتذال ثقافة الإصلاح. لا أقصد النيل من جدية الأمين عمرو موسى الذي أجل وأحترم، لكن لأبيِّن كيف يمكن أن يكون «المشروع الإصلاحي» ضد الإصلاح المطلوب. سمعت وقرأت أن لدى أمين الجامعة العربية مشروعا لإصلاحها وتصليحها، وبين بنوده بند يقترح انتخاب برلمان قومي عربي.

لا شك أن الأمين العام يعرف كيف يتم انتخاب البرلمانات العربية، ويعرف المدى المتواضع لسلطة التشريع والمحاسبة في مجالس شبه صورية، فهل يرغب الأمين العام ببرلمان قومي على هذا المستوى من التهميش والابتذال؟ ماذا يفعل برلمان قومي يأتي بغير الإرادة الحرة للناخب العربي؟ ألن يكون عبئا على جامعة عاجزة أصلا في قيادتها، ومترهلة في مؤسساتها وسفاراتها، وما زال أمينها العام مجرد أمين ليس مفوضا؟ بدلا من برلمان يكون مأوى لعجزة يحمل همهم الأمين العام، لماذا لا ينطوي مشروع تطوير الجامعة على إنشاء سفارة للجامعة العربية في كل عاصمة عربية؟ سفارة تلاحق تنفيذ القرارات والتوصيات النائمة في الأدراج، وتجبي الاشتراكات التي لم تدفع، وتذكِّر الدول بأهمية تنسيق القرار القومي العربي.

أدعو للأستاذ عمرو موسى بعون من الله جلت حكمته، وأتركه وأترك ثقافة الإصلاح، إلى... ثقافة الديمقراطية. الواقع ان علاقة مريبة نشأت بين الثقافتين. هل نطالب بإصلاح ديمقراطي؟ أم بإصلاح اقتصادي/ اجتماعي وليس بسياسي؟ في ثقافة خلط السمك باللبن، لم يعد أحد يعرف. الذين طالبوا بالمجتمع المدني، بمجتمع القانون والمساواة والشفافية سجنوا هنا وهناك، بتهمة انتهاك الدساتير التي يجرى تفصيلها وتعديلها حسب مقاس الأشخاص والنظام.

الأصولية الانتحارية «تجاهد» أيضا ضد ثقافة الديمقراطية. يظهر احد الشيوخ على شاشة «الجزيرة» ليكفر الديمقراطية! وكأن الشورى في الإسلام ليست الديمقراطية. العمليات الانتحارية التي تروع العراق ومجتمعات عربية تؤخر وتعطل مسيرة الديمقراطية.

وحدها القيادة السياسية السعودية تملك الشجاعة والجرأة على عقد ندوات الحوار بين ممثلي مختلف التيارات الاجتماعية والدينية، لبحث إشكالية الإصلاح والتطوير. نعم، هناك حكمة كبيرة في جعل هذه الندوات مغلقة وقاصرة على النخبة الواعية، كي لا يندلق الحوار إلى شارع لم يتعود، بعد، الحوار المفتوح.

مع ذلك، أحسب ان الوقت مناسب لتقديم بيان للرأي العام السعودي عن القضايا والإشكاليات التي جرى بحثها في هذه الندوات، وعن نقاط الخلاف والاتفاق بين المتحاورين، مع ضرورة الاستمرار في حكمة التحفظ بعدم السماح بانتقال الحوار إلى الإعلام والشارع، انتظاراً لقرارات القيادة السياسية في تحديد مراحل الأخذ بالأهم الممكن، وتقديمه على المهم الصعب أو المستحيل.

القوى والأنظمة التي ترفض إشاعة ثقافة الديمقراطية تربط عامدة متعمدة بين الهجمة العسكرية الأميركية والديمقراطية، وكأنه يتعين علينا، من باب الغيرة الوطنية والقومية، رفض الديمقراطية لأنها مطلب أميركي مشبوه وسيئ السمعة! المؤسف ان إدارة بوش تتعمد هي أيضاً هذا الخلط بين ثقافة الغزو والاحتلال وثقافة الديمقراطية، فتعطي ذريعة للنظام العربي للاستمرار في الانغلاق داخل قوقعة العزلة.

لا بد من الفصل تماما بين إدارة بوش والديمقراطية المنشودة. خير للنظام العربي أن يمارس تلقائيا وذاتيا الانفتاح الداخلي بتوسيع التعددية الحزبية والقبول بمبدأ المشاركة في السلطة والقرار، واعتماد نزاهة الاقتراع الحر، كي لا يبدو أنه يفعل ذلك تحت ضغط أجنبي أميركي ـ أوروبي.

بل الديمقراطية الداخلية هي الأداة الوحيدة لإنقاذ النظام العربي من الضغط الأميركي الآتي باسم الديمقراطية. المصالحة مع الشعب والانفتاح على المجتمع أفضل بكثير من تقديم التنازلات في السياسة الخارجية، وأفضل من دفع التعويضات الباهظة عن السياسات الماضوية الخاسرة، وأفضل من التخلي عن حماية الأمن الوطني والقومي.

لعل النظام العربي يدرك منذ الآن أن تقديم التنازلات الخارجية، على حساب السيادة والاستقلال، لن يوقف الضغط الأورو ـ أميركي من أجل إشاعة ثقافة الديمقراطية في العالم العربي. طلاء البيت من الخارج لن يخفي إشكالية المأزق الداخلي التي باتت مكشوفة أمام العالم كله.

وهكذا، فنحن نعيش ثقافة اللامعقول، ثقافة «التبُّولة» التي تخلط الانغلاق بالانفتاح، الحفاظ على القديم بمحاولة مسايرة الحديث، الاقتصاد الستاليني بالاقتصاد الليبرالي، السلام بالتطبيع، تعديل المناهج بالتكفير، التعددية السياسية بتزوير نتائج الاقتراع، المواجهة مع إسرائيل بالأمن الداخلي، والإصلاح بالصراع مع أميركا وإسرائيل والإرهاب، وأخيرا رفض الديمقراطية بحجة انها «بدعة» أميركية، أو بحجة أنها تختلف عن الشورى في الإسلام! مع هذا الخلط المتعمد وغير المتعمد بين ثقافات اللامعقول، نغرق في غموض الالتباس، ونضيِّع فرص الإنقاذ والخلاص.