نحن الواقفون

TT

لو سألنا أي ضليع في الأدب العربي عن أشهر بيت في الشعر الجاهلي لما تردد في القول بأنه مطلع معلقة امرئ القيس:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

بل يمكنني القول بأنني لا اتصور مثقفاً لا يعرف ويحفظ هذا البيت.

هناك اشراق عجيب في هذه الكلمة البسيطة «قفا». ذكروا مثل ذلك لمطلع قصيدة الجواهري في ذكرى أبي العلاء المعري.

قف بالمعرة وامسح خدها التربا

واستوح ممن دوخ الدنيا بما وهبا

تردد الكثير من ذلك في الشعر العربي حيث استثمر الشعراء هذه الشحنة العاطفية المختزنة في أمر الوقوف، والظاهر ان الكثير منها يعود إلى تلك الظاهرة العربية الكلاسيكية وهي: «الوقوف على الأطلال». فقلما يثير أي شيء مشاعر الرجل كرجوعه الى حيه القديم والوقوف أمام البيت الذي قضى فيه طفولته وربما شهد أول صولاته في عالم الحب. فما بالكم لو انه عاد فلم يجد من ذكريات الأمس غير اطلال أكلها البلى؟ وهكذا اصبح الوقوف على الاطلال الموضوع التقليدي الأساسي للبدء بأي قصيدة. لاحظ ذلك أبو نواس فسخر منه وقال:

قل لمن يبكي على رسم درس

واقفاً ما ضَّر لو كان جلس

هناك كثير من الأشعار والأقوال العربية الاصيلة التي تحث السامع على الوقوف. بل هناك أماكن تشير إلى ذلك، مثل: «وقفة باب الشيخ»، ووقفة شيخ عمر، وكلها تدل على اماكن يقف فيها الناس من دون أن نعرف ماذا يفعلون أثناء وقوفهم. هذه مسألة تتطلب من الباحثين الاجتماعيين الوقوف عندها ودراستها. فمن المعتاد لهم ان يعطونا شتى الارقام والاحصائيات عن نومنا أو مرضنا أو عملنا. هذه أشياء ثانوية، نريد أن نعرف كم من الوقت نصرف يومياً على الوقوف والتوقف عن القيام بأي شيء، نريد ان نعرف ماذا يفعل المواطن العربي عندما يقف، كم منهم يُنقبر انفه، كم منهم يفتل شواربه، كم منهم يحك صلعته، كم منهم يلعب بأصابع رجله ونحو ذلك من العادات الوطنية. اتذكر ان رجلاً اصيب بسرطان الخصيتين مما اضطر الأطباء لاستئصالهما، وعندما تعافى واستعاد صحته، تقدم لطلب وظيفة. قرأ المدير اضبارته والتقرير الطبي عنه، فعطف عليه وعينه بدون أي واسطة أو رشوة. قال له: باشر بالعمل من يوم غد من الساعة عشرة. اجابه الرجل: ولكن يا سيدي الدوام يبتدئ بالثمانية؟ قال له المدير: نعم يا ولدي، الموظفون يأتون الساعة ثمانية ولكنهم يقضون أول ساعتين لا يعملون أي شيء غير يلعبون بما ازاله الطبيب منك. فعلى ايش تجي الساعة ثمانية وتضيع وقتك؟

والظاهر ان هذا الهوس بالوقوف له ابعاده في تاريخنا العربي، فكل شيء عندنا يتوقف على الوقوف. الا ترى؟ لاحظ هذه الجملة البليغة: كل شيء يتوقف على الوقوف. حتى الوقوف يتطلب التوقف. على المرأة ان تقف في بيتها ولا تخرج. على الموظف ان يقف احتراماً للمدير. على التلاميذ في الصف ان يقفوا احتراماً للمعلم. وعلى الجميع ان يقفوا عند سماع السلام الوطني. وكل ما تحاول ان تأتي به من جديد، عليك ان تتوقف عنه. تسمعهم يقولون لك: قف عند حدك اذا اردت ان تدلي بأي رأي، أو تعترض على أي شيء. واذا لم تقف وتتوقف سيوقفون راتبك ويوقفون مخصصاتك، ويوقفونك بالموقف حيث يقتضي عليك الوقوف على قدميك ليلاً ونهاراً ضمن المفكرين الموقوفين في الموقف في عالمنا الواقف على رأسه بدون حراك. العالم يمشي ونحن واقفون.