عشرة رجال وسبعون رأيا

TT

هذا المساء في لندن هناك حوالي عشرة اصدقاء، اثنان منهم عراقيان جاءا ايام الهجرة الكبرى ونسيا حق العودة. والنقاش طبعا حول العراق. وبعد قليل لاحظت ان هناك 15 رأيا مختلفا و20 تحليلا وثلاثة توقعات: واحد يتوقع فيدرالية يكون فيها للأكراد الكلمة الكبرى، وواحد يتوقع جمهورية اسلامية برئاسة الشيخ الحكيم، وهو ما تتوقعه «نيويوركر» الاميركية. وواحد يتوقع الانقسام. وسبعة يريدون عودة العراق القومي، واثنان يقولان ان البرازاني صامت لأنه يعد نفسه لدور شديد الأهمية. احزروا ما هو.

جلست صامتا اصغي. اولا، لأنني لا اعرف ماذا سيجري في العراق ولا ماذا يجري الآن ولا من هي القوى الحقيقية التي تحرك كل شيء. ولا في اي اتجاه تحرك الاشياء. ولا اعرف من ظهر حتى الآن ومن يستعد للظهور، ولا لماذا لم نعد نسمع صوت مقتدى الصدر مع اننا ظللنا فترة لا نسمع سوى صوته. ولا اين اصبحت الحكومة التي ألفها وأعلنها وسمى اثنين من وزرائها، ولا نعرف من قتل السيد باقر الحكيم ولماذا لم يفتح تحقيق في اغتياله، ولا نعرف من هم جميع اعضاء المجلس الانتقالي، لأننا ما ان ندرّب الذاكرة على حفظ اسم الرئيس الشهري حتى يكون الشهر قد غاب. والديمقراطية قد خطت خطوة الى الامام والعراق قد عبر جسرا جديدا نحو المجهول.

ومع ذلك، مع ذلك كله، كنت اجد متعة خاصة في جلسة الاصدقاء في بهو «الكارلتون تاور». ففي الماضي كان لا يجرؤ عراقي من اصدقائنا على ان يسمع نكتة عن التمور، او عن طاهر يحيى، او حتى عن نوري السعيد.

وذات مرة سألت صديقا عراقيا ان كان سيذهب الى حفل ثقافي في لندن، فقال لا. فقلت لماذا، فقال لأن كاميرات الملحقية الثقافية هناك، تصور من حضر ومن غاب ومن فكر في الحضور ولم يستطع ومن تحدث مع من ومن تجهم ضد من.

وهذا الصديق نفسه خسرته فيما بعد، وبكل أسى. وبكل ندم مسبق، لكنني لم ارد ان يلحق به اي ضرر جراء الآراء التي اكتبها، ولم اقل له مرة سبب ابتعادي عن حلقته لأنني اعرف انه كان سيضحي او يغامر بسلامته من اجل قواعد الصداقة، ولذلك فوضى الآراء في بهو «الكارلتون تاور» افضل الف مرة من ان يكون الانسان في لندن وركبتاه تصطكان رعبا من جلاد ما في بغداد، او من كاتب تقرير لا يشبه في قباحته سوى نفسه. انني لا ادري ماذا سيحدث في العراق لكنني اعرف ان افتتاحية «الزمان» هذا الصباح عن حقوق الاكراد ودور الاكراد في العراق الموحد. ومثل هذا الكلام في الماضي كان ممنوعا حتى في الذاكرة، وكل هذه الفوضى في العراق اليوم ظاهرة سيئة لكنها افضل من القتل المنظم والخنق الرسمي والابادة الرسمية والاغتيالات التي لا يجرؤ احد على استنكارها. لو كان باب الحوار والنقاش الهادئ مفتوحا لما وصل العراق الى ما هو الآن. ولو كان للقوى السياسية والعسكرية والثقافية الحق في الرأي امس لما كان كل هذا الخراب الآن. ولما كانت قوى الهدر والخراب والدمار هي الوحيدة القادرة على الظهور. ولما تجرأ الاحتلال الاميركي على ان يقرع باب العراق الحر والسوي والرضي. وكل ما نأمل هو ان يظل لأصحاب الحكم مكان او موقع او مبتدأ في وسط كل هذا الكابوس.