الشرق الأوسط الكبير.. بين اللعب والجد

TT

الوضع في العراق قد لا يحسم لصالح الذين وعدوا بإقامة (نموذج للديمقراطية) في الشرق الأوسط، في العراق، قد لا يحسم الوضع في العراق ـ بهذه الصورة ـ في الشهور التسعة الفاصلة بين اليوم وبين الانتخابات الرئاسية الأميركية.. وعدم الحسم هذا ليس (نقطة) انتخابية رابحة، بل هو عنصر خسارة، تضاف إليه عناصر خسارة أخرى وهي: أن الحرب على الإرهاب لم تنجح كما ينبغي بسبب ربطها بأجندات أخرى لا علاقة لها بالإرهاب.. ومن عناصر الخسران أيضاً: وضع الاقتصاد الأميركي. ففي زمن الإدارة الحالية: ارتفع عجز الميزانية إلى 500 مليار دولار.. وتناقصت الوظائف بمعدل زاد على مليوني وظيفة.. وارتفع معدل الدين من خمسة ترليونات إلى سبعة تريليونات.

فماذا بقي من مكاسب في البرنامج الانتخابي الرئاسي؟.. لا شيء تقريباً.

ومن هنا، جاء مشروع (الشرق الأوسط الكبير أو الأعظم) فهو (ورقة انتخابية ضرورية) بحسبان أن الأوراق الأخرى غير مضمونة الربح.

ولكن: هل هذا معقول؟.. هل معقول: المقامرة بالديمقراطية التي هي قوام مشروع الشرق الأوسط الأعظم؟

إن العقل يسقط في (اللاوعي) أو يَغيب أو يُغيَّب إذا تعلق الأمر بالسياسة، أو الأوراق الانتخابية.

لقد غاب العقل في تسويغ الحرب على العراق. إذ بنيت هذه الحرب على كذبة (أسلحة الدمار الشامل) يملكها العراق.. وها هو (ديفيد كاي) ـ رئيس الفريق الأميركي للتفتيش عن هذه الأسلحة بعد سقوط صدام ونظامه ـ ها هو الخبير الأميركي المختار من الإدارة نفسها يقول:«لم توجد أسلحة دمار شامل في العراق، ولن توجد، ولو مكثنا نبحث عنها خمسين سنة مقبلة».

هل معقول: اللعب بالديمقراطية والعبث بمشروع (إصلاحي!!) كبير: ينقل المنطقة إلى مرتبة الدول الصناعية الكبرى؟!!

من يلعب بـ(الدين)، لا يصعب عليه اللعب بما سواه.. وكيف جرى اللعب بالدين ـ أي الإسلام ـ ؟.. في أثناء (جهاد) الاتحاد السوفياتي في أفغانستان: أسهمت الاستخبارات الأميركية إسهاما عميقاً وقوياً في شحن الكتب المدرسية الأفغانية بمضامين ( الجهاد) و(الشهادة) و(قتال الكفار). وهي مضامين عُزّزت بصور البنادق والمسدسات والقنابل وكثير من الوسائل العسكرية الأخرى.. فلما انفض سرادق الجهاد: عكفت جهات أميركية على محو ما أثبتته، واجتثاث ما غرسته، إذ رسمت خطة لتطهير الكتب المدرسية في أفغانستان من تلك المضامين والصور المثيرة المهيجة والمحرضة على القتل.. ففي مطلع عام 2002 أنفقت الإدارة الأميركية كامل نفقات إعادة طبع الكتب المدرسية لإزالة المفاهيم والإشارات الداعية إلى العنف والتي مجّدها (كريس براون) ـ رئيس مراجعة الكتب في قوة العمل الخاصة بآسيا الوسطى في وكالة المساعدات الدولية ـ مجدها فقال:«اعتقد أننا كنا في غاية السعادة لرؤية هذه الكتب وهي تساهم في التخلص من الاتحاد السوفياتي».. ومن التعديلات التي جرت على الكتب المدرسية: إحلال صور الرمان والبرتقال: محل صور البندقية والمسدس، والقنبلة!!

ولنفترض أن الداعين إلى (الشرق الأوسط الكبير أو العظيم) صادقون وجادون في مشروعهم هذا: دفعهم إلى المناداة به: حرصهم الشديد على إيجاد شرق أوسط جديد يتمتع بعناصر (القوة المعنوية والمادية) كافة.. لنفترض هذا، ولنقرن الافتراض بسؤال عقلاني (ففي المشروع نفسه تبشير بالعقلانية) وهذا السؤال هو: ما هي المقدمات المشجعة على تقبل هذا المشروع، والثقة بالمنادين به؟

الحقيقة والواقع ينطقان بأن (مقدمات المشروع) سيئة جدا جدا جدا (ثلاث مرات).. وليس من العقلانية: وضع مقومات سيئة للحصول على نتائج حسنة أو جميلة.

ومن هذه المقدمات السيئة:

1ـ شن حرب على أساس (كذبة).

2ـ سن( قانون الاشتباه): الموجه إلى العرب والمسلمين في المقام الأول، وهو قانون يتيح اعتقال البريء بتهمة انه كان (ينوي) فعل كذا وكذا.

3ـ الهجوم الضاري على الإسلام نفسه، وهو هجوم متعدد المضامين والمصادر والمنابر، شارك فيه مسؤولون كبار: حاليون غير سابقين.

4ـ المجاهرة بأن إسرائيل تملك سلاحا نووياً في المنطقة ومن حقها أن تحتفظ به من دون سواها.

5ـ التواطؤ على استمرار الظلم الإسرائيلي للشعب الفلسطيني.

6ـ لهذا كله ـ ومثله ـ : معه: أصبحت صورة الولايات المتحدة ـ في نظر العرب والمسلمين ـ في أسوأ حالاتها.

وبمنطق العقل والفطرة، والغريزة نسأل: هل هذه مقدمات مشجعة على أن تقبل شعوب المنطقة: مشروع الشرق الأوسط الكبير، وتقتنع به، وتتحمس له، وتطرب لعزفه: طرب العاشق المتيم؟

وثالثه.. أو تاسعه،، أو عاشره: داهية قاصمة.

إن مشروع (الشرق الأوسط الكبير) يبدو وكأنه (قصة صهيونية بإخراج أميركي).

كيف؟

منذ أكثر من عشر سنوات: أصدر (شيمعون بيريس) كتابا باسم (الشرق الأوسط الجديد): يمكن أن تقرأ الجديد بأنه هو (الكبير) أو (العظيم).

وركز بيريس في (الشرق الأوسط الجديد!!) على نقطتين أو محورين:

1ـ المحور الأول هو (الرقابة الأمنية). فقد قال:«ينبغي القيام بأعمال روتينية، وتقديم تقارير منتظمة إلى الدول العظمى الصديقة!!». وتتضمن هذه التقارير: معلومات تجمعها الأقمار الصناعية.. هذه الرقابة الواسعة على التحركات العسكرية هي البديل المنطقي لمفهوم (العمق الاستراتيجي)، وستتضمن التقارير، على المستوى الاستراتيجي العام: أعمال البحث والتطوير أيضا.

2ـ المحور الثاني هو ( الديمقراطية).. يقول بيريس في هذا المحور: «يحتاج الشرق الأوسط إلى الديمقراطية حاجة الكائن البشري إلى الأوكسجين، وليست الديمقراطية مجرد عملية تضمن الحرية الشخصية والمدنية، بل هي ايضاً هيئة رقابة تحرس السلام».

ويظهر التبشير الصهيوني بـ(الديمقراطية) في المنطقة، ليس رأياً شخصياً لبيريس، بل هو (مشروع صهيوني) مشترك، يعبر عنه كل زعيم إسرائيلي بطريقته.. ففي أواخر عام 1996 تحدث بنيامين نتنياهو إلى إذاعة الجيش الإسرائيلي فقال:«إن السلام الحقيقي مع العالم العربي لن يتحقق حتى تتأصل الديمقراطية هناك».

على الرغم من ذلك كله نقول: نحن نتفتح على كل فكرة جيدة، وكل طرح عقلاني، وكل مشروع بناء ينزع بالعرب والمسلمين إلى التقدم والنهوض الشامل.

ومن هنا، فنحن مع (شرق أوسط جديد) أو عظيم: وفق هذه الشروط والخصائص والمواصفات:

1ـ شرق أوسط جديد أو عظيم: لا تُحتَقر شعوبه، ولا يحط من شأنها بمقياس أنها ليست شعوبا ً(بيضاء) اللون. فالجنس العربي مثلا ـ مع الاحترام التام للأعراق الأخرى كافة ـ ليس جنسا (منحطاً) كما صوره نفر من المستشرقين: بل هو جنس عظيم بشهادة دائرة المعارف البريطانية نفسها التي عرّفت هذا الجنس بقولها:«العرب هم احد أقوى الأجناس وأشرفها في العالم، وذلك من الناحية العقلية ويتفوقون على معظم الأجناس. وهم متأخرون في مسيرة التقدم بسبب النقص الملحوظ في التنظيم، والعمل المشترك».

2ـ شرق أوسط عظيم لا ينظر إليه على انه (منجم للمواد الخام، وسوق للبضائع) فحسب، بل هو مع ذلك وقبله وبعده: حضارة وثقافة ومبادئ وقيم.. وعلى الداعين إلى الشرق الأوسط العظيم: أن يصدقوا رجالاً منهم: مفكرين وساسة.. عليهم أن يصدقوا (ول دورانت) وهو يقول:«إن المسلمين ساهموا مساهمة فعالة في كل المجالات، وعندما تقدم روجر بيكون بنظريته في أوروبا بعد 500 عام من عهد بن جبير، قال بيكون: انه مدين بعلمه إلى المغاربة في إسبانيا الذين اخذوا علمهم من المسلمين في المشرق».. وعليهم أن يصدقوا ( ريتشارد نكسون) وهو يقول«وبينما نطور سياستنا لنتعامل مع العالم الإسلامي علينا: أن نبدأ بالاحترام والتقدير للشعوب التي تشعر بالأسى والألم لأن الغرب قد أساء فهمها ووقف ضدها واستغلها، ويجب علينا ألا نفرض عليهم آراءنا ومفاهيمنا، ولو أن العالم الإسلامي ليس في نفس المستوى السياسي للعالم الغربي، إلا أن حضارتنا ليست اعرق من حضارتهم.. يتصور كثير من الأميركيين أن المسلمين هم شعوب غير متحضرة ودميمون وغير منطقيين. وقليل من الأميركين يدرك مدى عراقة العالم الإسلامي. ولقد تناسى هؤلاء أن الإسلام لا يقر الإرهاب. وانه لم تمض ثلاثة قرون منذ آخر حرب دينية في أوروبا.. إن العالم الإسلامي هو حضارة مهمة تبحث عن شخصيتها التاريخية. ولقد تمكن هذا العالم من تحرير نفسه من الاستعمار.. وبينما كانت أوروبا ترتع في غياهب العصور الوسطى، كانت الحضارة الإسلامية في أوج ازدهارها».

3ـ شرق أوسط مستقر وهانئ وعادل: يُنصَف فيه الشعب الفلسطيني، ويتمتع بحقوقه في الكرامة والأمن والعيش الكريم والدولة المستقلة كسائر الشعوب التي تنتسب إلى آدم فوق هذا الكوكب.

4ـ شرق أوسط ينمي نفسه ويتمتع بموارده ويتعاون على ذلك مع كل دولة، وكل امة من دون أطماع أو ابتزاز أو وصاية من أي نوع.

5ـ شرق أوسط (حر عزيز): لا تسلب منه الحرية باسم الحرية، ولا يجرد من العزة بالخضوع لمشروعات الهيمنة والإملاء والغرض.

6ـ شرق أوسط آمن: خال من أسلحة الدمار الشامل، بما في ذلك الأسلحة الإسرائيلية: النووية والجرثومية والكيمائية.

7ـ شرق أوسط عظيم: لا تكون (سيدته) إسرائيل، فالحر الكريم العظيم: لا يكون عبدا لأحد.

بهذه المواصفات والشروط: تعالوا نتعاون على بناء شرق أوسط جديد وعظيم.. وإلا.. فلا.. لا.. لا أوليس من الحرية والديمقراطية أن نقول: لا؟.. يقول (توماس جيفرسون): «هل يمكن اعتبار حريات الأمة مصونة إذا ما ازلنا قاعدتها الراسخة وهي: القناعة الراسخة في العقول بأن هذه الحريات هي هبة من الله».