الإرهاب في نسخته العراقية

TT

بعد تحريره، قبل عشرة أشهر تقريبا، تعرض العراق لأول هجمات ارهابية، ومنذ ذلك الحين واصلت الجهات المهتمة بتجاوز العراق للمرحلة الانتقالية الصعبة من الاستبداد الى الديمقراطية، طرح سؤالين غاية في الاهمية:

الاول: من هم الارهابيون؟ والسؤال الثاني: ماذا يريدون؟

الاجابة عن السؤال الاول ليست سهلة بأية حال. فالكل يعرف ان الهجمات المبكرة التي حدثت، كان وراءها بقايا عناصر النظام المخلوع المتحالفة مع جماعات من طبيعة مشابهة للمافيا، استفادت من حكم الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين.

وفي معظم الهجمات التي وقعت، استخدمت المتفجرات والأسلحة التي نهبت من مخازن الاسلحة الخاصة بالجيش العراقي المسرح. فيما ظهرت بصمات جهاز مخابرات النظام السابق واضحة على بعض العمليات، مثل اغتيال آية الله محمد باقر الحكيم، وتفجير مكتب الامم المتحدة في بغداد.

العمليات التي نفذتها هذه العناصر، يمكن وصفها بأنها «تقليدية»، بمعنى انها اتبعت الطرق المعروفة عن اجهزة الأمن العربية وعملائها منذ اواخر عقد الخمسينات. إلا ان العراق بدأ يشهد منذ شهر اغسطس الماضي، نوعين مختلفين من العمليات الارهابية، الاول يحمل بصمات المجموعات الصغيرة التي تبحث عن فرص او اهداف يكون الانتقام والتشفي دافعا اسياسيا لها في بعض الاحيان، وفي حالات اخرى يكون الهدف توجيه رسالة الى مجموعة او حزب او عائلة او عشيرة بعينها. وكما هو الحال في هذا النوع من الارهاب، فمن الصعوبة بمكان التمييز بين الاهداف الشخصية المحضة والسياسية.

النوع الثاني من الارهاب الذي ظل يشهده العراق منذ تلك الفترة ايضا، يمكن وصفه بأنه «غير تقليدي»، لأن منفذيه استخدموا العمليات الانتحارية على نحو متكرر.

وما يمكن قوله هنا، هو ان نمط الهجمات التي وقعت في العراق خلال الاسبوعين الماضيين، يشير الى ان هذا النوع من الهجمات يشكل تهديدا اساسيا للأمن والاستقرار في العراق.

ثمة انطباع بأن حملة الارهاب التقليدية التي انطلقت في مايو (أيار) الماضي، قد باتت تحت السيطرة بعد إلقاء القبض على غالبية المسؤولين البعثيين البارزين، بمن في ذلك صدام حسين نفسه. يضاف الى ذلك نجاح التحالف ومجلس الحكم الانتقالي في استيعاب جزء من قاعدة مؤيدي بقايا البعث، بإدخال عدد من القبائل والشخصيات السنية في السياسية المحلية.

إلا ان الارهاب الانتهازي، من الناحية الاخرى، سيستمر في الغالب لبعض الوقت. العراق بلد يعج بالمظالم ويفتقر، حتى الآن، الى الآليات الفاعلة للشرطة اللازمة لتطبيق امثل للنظام والقانون. لذا فإن الخطر الرئيسي الذي يتهدد الاستقرار في العراق حاليا، وربما لبعض الوقت مستقبلا، سيكون الارهاب غير التقليدي. ولكن ماذا يريد كل هؤلاء الارهابيين؟

بقايا حزب البعث تهدف الى إلحاق خسائر بالأميركيين، على امل ان يصبح العراق «صومالا آخر»، لكي تضطر القوات الاميركية للهرب في نهاية الامر، عند ذلك سيكون البعثيون هم القوة الوحيدة المسلحة والمنظمة وسط وضع يتسم بالفوضى والاضطراب.

هناك الكثير ممن يراودهم هذا الوهم، بمن في ذلك الرئيس الايراني السابق هاشمي رفسنجاني، الذي قال في مايو الماضي، ان الاميركيين «سيجمعون اغراضهم ويرحلون» بعد ان تصل خسائرهم الى 500 جندي.

لم يحدث بالطبع ما توقعه، ووصلت رسالته واضحة الى اكثر البعثيين تشددا. كما ان خبراء وعناصر الارهاب سيعيدون النظر غالبا في موقفهم، في وقت تهم فيه البلاد بإعادة بناء البنية التحتية المتعلقة بالنظام والقانون. ربما تستمر الهجمات الفردية ايضا لشهور، ان لم يكن لسنوات، كما هو الحال في دول عربية اخرى، إلا انها لن تؤثر على الأوضاع ككل.

ومن الناحية الاخرى، ربما ينجح الارهابيون، غير التقليديين، في إبطاء عملية بسط الاستقرار وزيادة معانات العراقيين. فعلى العكس من الارهابيين التقليديين، لا تهدف هذه العناصر الى طرد الاميركيين من العراق، بل ترمي الى منع العراقيين من إقامة حكومة انتقالية تضطلع بمهمة التفاوض لسحب القوات الاميركية والقوات الاخرى من العراق.

هذا النوع من الارهاب ليس جديدا، اذ يعود تاريخ ممارسته الى العدميين الروس في القرن التاسع عشر، الذين يعتقدون ان القضاء على كل شيء يمكن ان يسفر عن بناء عالم جديد افضل حالا. ويستهدف العدميون كل الذين يقدمون الخدمات التي يحتاجها المجتمع كمتطلبات للحياة العادية. ويتضح هذا جليا في نتائج دراسة اجريت في الآونة الاخيرة، على ضحايا الارهاب في العراق. فمن بين ما يزيد على 1400 لقوا حتفهم منذ اغسطس الماضي، يقدر القتلى من الجنود الاميركيين وقوات التحالف الاخرى، بما يزيد قليلا على 200، فيما يقدر عدد الضحايا من افراد الشرطة العراقية الجديدة ومجندي الجيش الجديد وأفراد مكتب التحقيقات الجنائية الجديد بحوالي 600، اما بقية الضحايا فهم من المعلمين والأطباء والاقتصاديين والمهندسين والموظفين وكوادر سياسية وقضاة ومحامين وشخصيات دينية وإعلاميين ومقاولين.

مثلما كتب عدد من قادة «القاعدة» والإرهاب الاسلاموي خلال الشهور الاخيرة، فقد بات العراق بالنسبة لهم «ميدان المعركة الاول». فهؤلاء مصممون على منع العراق من ان يصبح مجتمعا حديثا ليس فيه من مجال لظلامية الآيديولوجيات الراديكالية.

شاهدنا هذا النوع من الارهاب في لبنان خلال عقد السبعينات، وفي الجزائر منذ عام 1992. ففي لبنان كان يهدف هذه النوع من الارهاب الى القضاء على المجموعات الدينية المنافسة، اما في الجزائر فإن الهدف منه كان القضاء على شعب بكامله.

من المؤكد تقريبا ان غالبية الارهابيين الذين ينشطون الآن في العراق هم من العناصر الاجنبية التي تسللت الى البلاد خلال المراحل المبكرة بعد تحريرها، وهذا ما يميزهم عن نظرائهم الجزائريين، اذ ان الغالبية الساحقة من «الجماعة الاسلامية المسلحة» الجزائرية وعصابات الارهاب الأخرى المماثلة، تتكون من شبان محليين يعملون وفقا لتوجيهات وقيادة «امراء» قاتلوا في السابق في افغانستان والشيشان ويوغسلافيا السابقة.

النسخة العراقية من «الجماعة الاسلامية المسلحة» تضم افرادا ليست لهم قاعدة محلية، وهذا هو السبب في ان هزيمتهم يجب ان تكون اكثر سهولة.