الجدار والغيتو

TT

لم ينتبه احد الى ان الجدار الفاصل (الذي يسميه الصهاينة خطأ بالسياج) الجاري اقامته في فلسطين حاليا يعود في الواقع الى الذهنية الاشكنازية ليهود اوروبا الشرقية الذين يسيطرون على شؤون اسرائيل، يقوم تراث هؤلاء القوم على خلفية الغيتو، الحي اليهوي المخصص لسكنى اليهود في اوروبا حتى أواخر القرن التاسع عشر. كان هذا الحي محاطا بجدار عال له باب واحد يغلق عند الليل. وكان اليهود يتمتعون فيه باستقلال داخلي، يديرون شؤونهم بأنفسهم ويجمعون الضرائب ويمارسون القضاء والرعاية الطبية، والتعليم وكل شيء بأنفسهم في معزل عما يحيط بهم. تركت حياة الغيتو آثارها في ابناء اوروبا الشرقية من حيث حب الانعزال والازدحام والشك في الاغيار والخوف منهم. صور هذه الحياة المنعزلة المحاطة بجدار خير تصوير الكاتب الصهيوني اسرائيل زانغويل في كتابه «اولاد الغيتو».

يعتقد الكثيرون ان الغيتو شيء فرضه النصارى على اليهود. ولكن الواقع يقول ان اقامة الغيتو واحاطته بسور كان شيئا طيبا طلبه اليهود انفسهم، على الغالب لاتقاء هجمات الاغيار عليهم، وهو ما كان يجري في الكثير. غالبا ما ألاحظ ان الكثير من سلوك اسرائيل يعكس خلفية الغيتو ونفسيته، ومنها السلوك الانعزالي الذي مارسوه حيال الفلسطينيين منذ اول مجيئهم.

الغيتو ظاهرة اوروبية، لم نعرفها في مدننا العربية، حقا كانت لليهود احياؤهم الخاصة كسوق حنون وعقد اليهود في بغداد ولكن اي احد لم يفرض عليهم الاقامة فيها أو منعهم من الاقامة خارجها، أو بناء سور حولها. كانت هناك بيوت يهودية ومدرسة وكنيس بجوار الامام ابي حنيفة في الاعظمية.

وهنا ملاحظة جديرة بالانتباه، كنت اتأكد من معلوماتي بمراجعة الموسوعة البريطانية الاخيرة (طبعة 2001)، وجدت مقالة الغيتو تبدأ بالاشارة الى ان العرب هم الذين أسسوا الغيتو اول مرة، وذكر الكاتب المغرب واليمن. ومضى في معالجة الموضوع وكأنه ظاهرة من صنع العرب والمسلمين.

استغربت من ذلك، وتذكرت انني لم اسمع بمثل هذا الكلام من قبل، فكلفت نفسي بالبحث عن موسوعة قديمة حتى استطعت العثور على طبعة 1957 من الموسوعة البريطانية ذاتها، نظرت في مقالة الغيتو فلم اجد فيها اي ذكر للعرب أو اية اشارة لغيتو عربي. عالجت المقالة الموضوع كليا في اطار التاريخ الاوروبي، ومن ذلك ان مجلس اللاترنال الثالث اوصى عام 1170 بفصل المسيحيين عن غيرهم (أي اليهود). وبدأ الاوروبيون بتطبيق التوصيات، اشتهر منها بصورة خاصة غيتو براغ ودارسو. بقيت حتى القرن التاسع عشر عندما شرع نابليون بتحرير اليهود فهدم سور الغيتو في باريس. وبقيت الغيتوات في روسيا حتى الثورة البلشفية 1917.

يعكس التباين بين طبعتي الموسوعة البريطانية مدى التحول نحو معاداة العرب، واذا كانت حتى هذه الموسوعة المحترمة اخذت تقع بمثل هذه العنجهة المعادية، فلا أدري كيف سنطمئن لحياد اي كتاب يصدر عنا.