كيف نتجاوز خلافات فتح والسلطة الفلسطينية؟

TT

يقدم موضوع قطاع غزة، وإعلان آرييل شارون الكلامي، حتى الآن، أنه سيزيل المستوطنات من القطاع، والمخاوف التي نشأت من انفلات الوضع الأمني بعد الانسحاب الإسرائيلي، نموذجا لمخاطر الخلافات الداخلية القائمة داخل حركة «فتح»، والتي تمتد مباشرة إلى داخل السلطة الفلسطينية وما تبقى من أجهزتها.

يتصور البعض أن إسرائيل ستنسحب من القطاع، فتتحرك حركة «حماس» ومعها حركة «الجهاد الإسلامي» للسيطرة على القطاع، محاولة إقصاء السلطة الفلسطينية بالكامل. وتضطر من أجل ذلك للاشتباك مع أجهزة السلطة، لتنشأ حالة اقتتال داخلي أمكن تجنبها طوال السنوات العشر الماضية.

أو يتصور البعض أن إسرائيل ستنسحب تاركة الأمور على غاربها، فيتحرك كل جهاز أمني ليسيطر على ما يستطيع السيطرة عليه، فينشأ صراع بين أجهزة السلطة نفسها، ويكون محمد دحلان ومجموعته غير الرسمية داخل جهاز الأمن الوقائي، الجهة المرغوب دعمها دوليا، باعتباره الطرف الذي يعتبر نفسه مستعدا لضرب حماس أو سواها.

أو يتصور البعض أن محاولة حماس أو الأجهزة الأمنية السيطرة على الوضع، ستحرك تنظيم فتح في القطاع ليحاول السيطرة لصالحه، بعيدا عن الأجهزة الأمنية، وقد ينشأ هنا اقتتال بين قوى حركة فتح نفسها.

وهذه السيناريوهات كلها سيئة، وكلها تنبع من واقع الأزمة الداخلية في حركة فتح وفي السلطة الفلسطينية، ولا بد من ابتكار حلول تتجاوز السيئ، ويكون وجودها على الأرض مدخلا لتجاوز الأزمة الداخلية في فتح والسلطة. إن تجاوز الأزمة لا يتم بإجراءات تنظيمية داخلية، ولا بعمليات استرضاء لهذا الطرف أو ذاك، ولا بمعالجات كلاسيكية من نوع تغيير وزاري يتم فيه تسليم وزارة الداخلية لشخص محدد. يحتاج تجاوز الأزمة إلى عقلية جديدة تبدأ المعالجة، وها هو قطاع غزة يقدم نفسه كنموذج ممكن.

هل يمكن مثلا اختيار لجنة عليا، تسمى «لجنة إدارة قطاع غزة»، تتمثل فيها شخصيات من القطاع، وممثلون عن المخيمات، وممثلون عن الفصائل المقاتلة، وممثلون عن أجهزة السلطة، وتكون بمثابة حكومة محلية مصغرة، تتشارك فيها القوى الفصائلية والقوى الاجتماعية، وتتشارك فيها القوى التنظيمية والقوى الأمنية، ويتشارك فيها ساكنو المخيمات وساكنو المدن، وهذه اللجنة هي التي تتولى اتخاذ القرارات الميدانية، ويطيع الجميع إرشاداتها وأوامرها؟

هل يمكن مثلا تصور تشكيل لجنة فلسطينية، لجنة تخطيطية، تتولى درس المستوطنات الإسرائيلية، سواء خليت أم لم تخل، ومعرفة وحداتها السكنية، ومدارسها، والخدمات المتوفرة فيها، ومساحة أراضيها الزراعية، والمشاغل أو المصانع المتوفرة لها، مع تهيئة جهة ستتولى تسلم كل مستوطنة على حدة، وإدارة شؤونها، والتصرف بعد ذلك بها من ضمن خطة عامة موضوعة، تحافظ على الممتلكات، وتدرس خطة الإسكان، ولمن تكون وكيف، وتقرر من سيدير المشروعات الزراعية أو الصناعية. ثم تقترح هذه اللجنة بعد ذلك كيف سيتم توسيع المستوطنات، وكيف سيتم إدماجها في خدمة الساكنين والعاملين.

هل يمكن مثلا تشكيل لجنة أمنية، تتولى الإشراف على أمن المستوطنات، الأمن فقط، بعيدا عن التصرف أو التقرير بشأن المساكن والمنشآت، على أن تتشارك جميع الأجهزة الأمنية في هذه المهمة؟

إن تفكيرا من هذا النوع، يضع الجميع في موقع المسؤولية، ويشرك الجميع في تحمل المسؤولية، ويخضع الجميع لتوجيهات لجنة إدارية عليا، سيشكل مدخلا لتجاوز الصراعات على وزن كل طرف ودوره، لأنه سيلغي سلفا محاولات أي طرف لإقصاء أي طرف آخر أو إبعاده. وإذا نجحت التجربة في وضع الجميع داخل إطار مهمات تتولى إدارة وتطوير المستوطنات، يتم الانتقال بعد ذلك لتعميم التجربة على القطاع بأكمله، ومن ضمن المنهج نفسه.

إن المنهج القائم يعتمد على الوزارات التي كثيرا ما تكون وزارات من دون عمل، أو يقتصر عملها على مهمات محددة هي أقرب ما تكون إلى إدارة شركة لا إدارة دولة، بحكم وجود الاحتلال وغياب الاستقلال الذي يفتح باب التخطيط الشامل. فلماذا لا ينشأ منهج جديد في صياغة المهمات الرسمية للسلطة، تتكون فيه لجان أو إدارات تتخصص كل واحدة منها بمشكلة من المشكلات التي تنبع من الوضع الفلسطيني المعاش في ظل الاحتلال والانتفاضة؟ (طرح مثل هذا الاقتراح في المجلس الثوري لحركة فتح من قبل السيد أبو بكر وقوبل باستخفاف !!). فتكون هناك لجنة تشرف على مشاكل المخيمات (النظافة، المجاري، مياه الشرب، التيار الكهربائي)، وتكون هناك لجنة خاصة بمتابعة شؤون الأسرى والمعتقلين (الزيارات، المحامين، التعذيب، عمليات الإسقاط للأطفال، والإشراف على شؤون عائلات الأسرى). وتكون هناك لجنة خاصة بالمعاقين، المعاقين بشكل عام أو المعاقين بسبب إصابات الانتفاضة والمواجهات مع قوات الاحتلال (عيادات خاصة، مصنع أو مصانع للأطراف، تأمين العربات اللازمة للحركة، مراكز للتأهيل العلمي والمهني). وتكون هناك لجنة خاصة بالتعاطي مع مشكلة البطالة والتشغيل، سواء داخل السوق الفلسطينية، أو داخل السوق الإسرائيلية، أو داخل السوق العربية المغلقة في وجههم لأسباب لا يعرفها أحد. وتتولى هذه اللجنة معرفة العدد الحقيقي للعاطلين، وأنواع تعليمهم، وكفاءاتهم، وخبراتهم، وتقدم اقتراحات للسلطة تفيدها في المفاوضات أو في الاتصالات مع الدول العربية، أو عند تحديد مساعدات الجهات الدولية المانحة، بحيث تفيد هذه المساعدات في إيجاد مشاريع تعالج مشكلات البطالة.

لا نريد أن نقول إن هذه اللجان يجب أن تحل محل الوزارات، ولكن نقول إن هذه اللجان التي تتصدى لمعالجة مشكلات محددة، وتتعاون بداخلها كل الفصائل والقوى الاجتماعية، ستشكل دائرة أكثر فعالية لمساعدة الناس، وستشكل أيضا مدخلا لمعالجة الصراعات الداخلية القائمة، عن طريق تجاوزها نحو العمل، ونحو العمل المشترك، لا عن طريق محاولات الحسم فيها لصالح هذه القوة أو تلك.

ولنتصور أن مثل هذه التجربة قد نجحت في قطاع غزة، فإن هذا سيشجع في مرحلة لاحقة على نقل التجربة إلى الضفة الغربية، وسيؤدي ذلك إلى ما يمكن وصفه بملء المجتمع من الداخل، ملئه بالعمل، وملئه بمهمات يحتاج إليها المجتمع، وملئه بتعاون القوى لا بتناحرها. إن تجربة من هذا النوع ستحول عضو التنظيم إلى عضو عامل في مجال المخيمات أو الأسرى أو المعاقين، وستحول القوى الاجتماعية التي تحس بأنها مهملة وبقيت على هامش التجربة السياسية، إلى قوة فاعلة تعطي للسلطة الفلسطينية ثقافتها وخبرتها، وتصبح مهمة الوزارات بعد ذلك أن تستفيد من هامش اتصالاتها السياسية الواسعة عربيا ودوليا، لتوفي الخدمات المطلوبة من أجل مساعدة هذه اللجان على إنجاز عملها، فتتحول من وزارات شكلية أحيانا، إلى وزارات ذات أدوار واضحة وملموسة.

ومن البديهي أن هذا كله لا يمكن أن يتم، إلا إذا بادرت السلطة الفلسطينية إلى بدء التفكير بتركيب جديد للسلطة يقوم على أساس هذا النوع من المهمات، وليس على أساس الشكليات التقليدية للدول (وزارات، وأجهزة رسمية، وسفارات.... الخ). فالمطلوب بناء سلطة على أساس الحاجات الفعلية للمجتمع الفلسطيني. والمطلوب فتح الباب أمام جميع القوى للعمل داخل هذا الإطار. والمطلوب السعي لحل الخلافات من خلال تحديد مهمات، وتحديد أدوار وواجبات، وإلا فإن الخلافات ستبقى، وتتسع، وتتفاقم، وتصبح مع الزمن خلافات شخصية هدفها المصالح والمناصب، وهي أسوأ حالة يمكن أن يواجهها المجتمع الفلسطيني.