«فورن أفيرز» للمرة الثانية

TT

نصحني صديق اثق في حكمته بعدم كتابة هذا المقال لان فيه حسب رأيه «حرقا لمراكبي مع مجلة ذات وزن كبير مثل «فورن افيرز»، ورغم هذا التحذير الا انني قررت الكتابة لسببين: «الاول هو انني شاركت قارئ «الشرق الاوسط» منذ اربعة اسابيع تعقيبي وملاحظاتي على مقال زميلنا «مايكل سكوت دوران» الذي كتبه عن المملكة العربية السعودية ونظريته الجديدة عن جناحي التوحيد والتقارب في السياسة الخارجية السعودية. نظرية وصفتها بانها مبنية على عدم معرفة وان كل المحللين تقريبا، وخصوصا السعوديين منهم لم يسمعوا بها او عنها. اما السبب الثاني فهو مرتبط بمكالمة وصلتني من مدير تحرير المجلة الصديق جديون روز، الذي اخبرني فيها عن اعتذار المجلة عدم نشر مقال لي كانت المجلة وجديون نفسه قد كلفاني بكتابته منذ عام عن مستقبل التعليم في العالم الاسلامي، يومها قال لي السيد روز ان المجلة ستتكلف بمصاريف البحث فيما يخص موضوعا معقدا كهذا، وكتبت المقال الذي استغرق البحث فيه شهورا، وسلمته للمجلة، وعدلت فيه مرة اخرى بعد ان قرأته هيئة التحرير، واعدت صياغته واضافت اليه تطورات كانت قد حدثت في الساحة العربية فيما يخص الحوار حول التعليم، فقد حدث حوار حول هذه المسألة في مصر وفي السعودية، وفي كثير من الدول العربية، ويكون من عدم الامانة الا يضاف الى المقال، وخصوصا انني بدأت البحث قبل ان تظهر او تطفو هذه الحوارات على الساحة العربية.

قبل مكالمة الصديق جديون روز كانت وصلتني مكالمة اخرى من الزميل مايكل سكوت دوران، اخبرني فيها ان مقالي في «الشرق الاوسط» كان حديث الاوساط المهتمة بالسعودية وان مجموعة غلف تو ثاوزاند «Gulf 2000» التي يشرف عليها الاستاذ جاري سيك Gary Sick، المستشار السابق في ادارة الرئيس كارتر، وهي مجموعة من الاكاديميين الاميركيين المهتمين بشؤون الخليج وايران، اخبرني ان المجموعة استغلت نقدي لمقاله للتشهير به وبما يكتب. كان دوران غاضبا، فاخبرته ان من حقه ان يكتب ردا على مقالي في «الشرق الاوسط» وانني سأترك له مساحتي يوم الاثنين كي يضع رده بالعربية ان كان يكتب بالعربية. ولما قال لي انه لا يكتب بالعربية تطوعت ان اترجم له مقاله ان اراد. ولم يكتب الزميل دوران، واتصلت به مذكرا اياه باهمية ان يرد. ولم يرد.

وزميلنا مايكل دوران زميل الان بمجلس العلاقات الخارجية في نيويورك الذي تصدر منه مجلة «فورن افيرز»، ولما وصلتني مكالمة الصديق جديون روز برفض مقالي، ورد في ذهني (وان بعض الظن اثم) ظن بان ثمة علاقة ما قد تكون موجودة ما بين نقدي لنوعية المقالات التي تنشرها «فورن افيرز» على صفحات «الشرق الاوسط» وبين اعتذار السيد روز عن نشر مقالي الذي كلفني هو بكتابته، وتطوع بدفع مصاريف البحث، ولولا طلبه ما كنت قد كتبته.

فهل هناك رابط او علاقة بين هذين الحدثين وخصوصا ان مقالي كان في صورته الاخيرة للنشر؟

رفض المقالات هو امر طبيعي وهو حق الناشرين في النهاية، ولكن رفض مقال بعد التكليف هو امر غالبا ما تتدخل فيه عوامل سياسية وشخصية احيانا، وكذلك مصالح جماعات مختلفة لها القدرة على حجب مقال عن الضوء.

على هذه الصفحات اتعبت اصدقائي في العالم العربي واشبعتهم نقدا لصحافتهم، من حيث اختلال المعايير، وغياب الموضوعية الى اخر مجموعة المنظومة القيمية التي يطلق عليها ميثاق الشرف الصحافي وحقوق ابداء الرأي وحرية التعبير، فاستاء من نقدي كثيرون، وسماه بعضهم بجلد الذات، لذا يكون من حقهم علي ان اوضح لهم ما يحدث ايضا على الطرف الاخر من المعادلة، واؤكد لهم ان ليس كل ما في امريكا ورديا، فالنشر في امريكا يخضع ايضا، وربما بدرجة اقل، لضغوط جماعات المصالح، وكذلك لتوجهات سائدة في المجتمع احيانا. وان مشكلة حرية الرأي والتعبير وان كانت قائمة شيئا ما في العالم العربي، الا انها ليست ناصعة البياض في امريكا او في نيويورك تحديدا، وخصوصا اذا ما تعلق الامر بمحاولة انصاف العرب وحقوقهم ولو قليلا.

حتى هذه اللحظة انا لم اقل ان هناك ربطا واضحا بين نقدي لـ«فورن افيرز» ونشرها لمقالات دوران وبين الاعتذار عن عدم نشر مقالي. ولكن لا بد من ان نرفع اسئلة بدأ المتخصصون في شؤون العالم العربي يسألونها فيما يخص سياسة التحرير في «فورن افيرز»، اولها يخص الزميل دوران الذي نشر في عامين اكثر من ثلاثة مقالات عن العالم العربي في ذات المجلة ـ الا يوجد متخصص اخر غير السيد دوران يفهم هذه المنطقة من العالم؟! وهل يعقل ان ينشر الزميل دوران وهو الاستاذ المساعد في جامعة برنستون حديث العهد بالمنطقة مقالات في ذات المجلة اكثر مما نشر فيها استاذ كبير مثل فؤاد عجمي، الذي هو عضو مجلس امناء مجلس العلاقات الخارجية نفسه، او استاذ عارف بشؤون الشرق الاوسط وممارس للعملية السياسية كالصديق وليم كوانت؟ واذا كان دوران مدرسا لتاريخ المنطقة فهناك اساتذة تاريخ اقدم واكثر خبرة مثل الاستاذين رومي متخده وروجر اوين بجامعة هارفارد او الاستاذ فيليب خوري بجامعة ام. آي تي، هذا ان كان الامر يخص التاريخ، فكيف يعقل ان ينشر دوران اكثر من برنارد لويس نفسه؟! اما اذا تعلق الامر بسياسة المنطقة وعلاقات الشيعة بالسنة وغير ذلك من القضايا التي فرضتها حرب العراق فهناك عشرات من الاساتذة المتميزين في هذا الشأن مثل جرجوري جوز واسحق نقاش، وليسا اندرسون، واخرين.

السؤال هنا كما السؤال هناك، هو سؤال تهميش المعرفة والمعلومة الحقيقية على حساب المعلومات المسيسة، وتسيس المعلومات هو امر خطير، وهو الذي اوصل الادارة الامريكية الحالية الى حالتها هذه التي ادت الى اتهامها بالكذب فيما يخص اسلحة الدمار الشامل في العراق. خطورة تسيس المعلومات لخدمة اجندة سياسية هو انه يأتي في النهاية ضد المصلحة الامريكية العليا، رغم انه يهدف على المدى القصير لخدمة مصالح مجموعات ذات رؤى ومصالح ضيقة.

الامر الذي اختلف فيه مع الزميل دوران ومع المتطرفين في العالم العربي هو ذات الشأن في الحالتين، انطلق فيه من مبادئ شخصية ومن معايير معرفية متعارف عليها، الاساس فيها الاعتدال والنسبة والتناسب في التعاطي مع الامر Proportionality Principle. ففي كل طروحات دوران القضية المركزية هي «ان القضية الفلسطينية وحلها ليست مركزية في سياسة امريكا تجاه الشرق الاوسط، وانه يمكن التعامل مع ملف الارهاب دونما حل للقضية الفلسطينية. القضية الفلسطينية، حسب رأي دوران، يجب الا تؤخذ في الاعتبار مطلقا، وانها تساوي صفرا في معادلة الشرق الاوسط». هذا في رأيي هو تسيس للامور وليس تحليلا او علما يصدر عن استاذ جامعي، قلت ذلك في المقال السابق واكرره الان. وانا اعرف ان هذا المقال سيترجم كما ترجم سابقه. كذلك انتقدت جماعتنا الذين يقولون بان كل شيء هو القضية الفلسطينية، وقلت في اكثر من مقال واكثر من حوار انها جزء كبير من مشاكل المنطقة ولكن لو حلت غدا فلن تحل مشاكل المنطقة وذلك لوجود عوامل موضوعية لا بد من التعامل معها. اعتقد ان سمعة مجلس العلاقات الخارجية وكذلك مجلته المحترمة على المحك الان اذا ما ساد مثل هذا الطرح الذي يهمش فلسطين على صفحات المجلة، هذا طرح سياسي وليس علميا، فالمجلس تحت ادارة الرئيس الجديد ريتشارد هاس وهو رجل نابه يحتاج الى الانحياز الى العلم والمعرفة وليس الى الايديولوجيا، فلامريكا مع العالم العربي مصالح اكبر بكثير متشابكة ومعقدة لا يجب النظر اليها من خلال نظارة زميلنا دوران ومن لف لفه. زميلي دوران يؤدي خدمة لنفسه ولوطنه اذا ما ترك تسيس المعرفة، وعكف على كتابة كتاب محترم يساعده على الترقي، هنا يصبح اضافة لجامعته وللمجلس، وظني ان السيد هاس وكذلك مجلس امناء المجلس قد يعيدون النظر في توجهاته، في الفترة المقبلة، لان مثل هذا الانحياز الايديولوجي القائم يسيء الى سمعة مجلس كبير وله تاريخ مثل مجلس العلاقات الخارجية بنيويورك.

وفي النهاية اعتذر لصديقي الذي نصحني بعدم الكتابة حتى لا احرق مراكبي، فظني انه في بعض الاحيان يجب احراق المراكب، حتى لو من باب اشعال نار كتلك التي كانت تهدي البحارة عندما يكون البحر هائجا والجو حالك السواد.

* إضاءة أولى:

تأكيدا على أن الأمر لا يخصني وحدي قال لي صديقي يوسف إبراهيم إن مجلس العلاقات الخارجية رفض تجديد عضويته لأن آراءه بدأت تزعج كثيرين في المجلس. ومن عجب أن المجلس لم يخف هذه الحقيقة فحملها خطاب الاستغناء عن عضوية يوسف إبراهيم، وللعلم فيوسف كان كبير مراسلي الـ«نيويورك تايمز» في الشرق الأوسط، وكذلك عمل كبير مراسلين لصحيفة الـ«الوول ستريت جورنال» وهما صحيفتان لم يعرف عنهما انحيازهما للعرب. وأخيرا فيوسف مصري ـ أميركي قبطي وليس جهاديا، فإذا رفض المجلس رجلا بكل هذه المؤهلات، ترى من سيقبل؟

* إضاء أخيرة:

غداء قطر الأخير الذي أقامه المجلس كلف دولة قطر نحو نصف مليون دولار فيما تلقى المجلس قيمة 10 ملايين دولار من دول عربية مختلفة، والسؤال هو: لماذا يدعم العرب مجلسا بهذه المواصفات؟