الإسرائيليون والفلسطينيون بحاجة إلى لاعب أساسي لا مجرد وسيط

TT

في الوقت الذي تبحث فيه إدارة بوش عن مخرج من ورطتها في العراق، لجأت مجددا إلى تأجيل جهودها المترددة والمضطربة لحل أزمة شرق أوسطية أخرى، هي النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، الأكثر فتكا ومجلبة لعدم الاستقرار.

وقد وصل وزير الخارجية الأميركي، كولن باول، الاسبوع الماضي، إلى درجة الاعتراف بهذا الأمر، في تصريحه الذي قال فيه، إن الأمل ما يزال يحدو واشنطن في لعب دور «الوسيط الأمين» من أجل «تشجيع» المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

«وسيط أمين»! هل هذا هو الدور المنتظر من القوة العظمى المسماة الولايات المتحدة في هذا المنعطف الخطير في العلاقات العربية ـ الإسرائيلية؟

من المفيد أن نذكر ان بسمارك كان اول من استخدم مصطلح «الوسيط الأمين» عام 1878، عندما عرض المستشار الالماني الأشهر خدماته في التوسط لحل أزمة عالمية كانت تحتدم وقتها في البلقان. لكن النزاع البلقاني لم يكن بين كيانين سياسيين صغيرين، بل كان صراعا بين إمبراطوريتين كبريين هما روسيا وبريطانيا، واللتين كانتا على درجة من القوة والجبروت يسمح لهما بقبول دور «الوسيط الأمين».

«المفاوضات»؟!.. يا لها من وصفة مجربة للفشل! فالامم الصغيرة، اللاهثة في بحثها عن الأمن الإقليمي، والوالغة في بحر من الشكوك المتبادلة، والأحقاد والدماء، ليس لديها أي سجل مهما كان في «التفاوض» من أجل حل قضايا حدودها أو الوصول إلى اتفاقيات سلام فيما بينها، سواء وجدت وسيطا أمينا أم لم تجده.

واقتناصا للسوابق يمكن للمرء أن يرجع إلى سلسلة الاجتماعات التي عقدتها القوى العظمى «في فيينا ولندن وباريس وبرلين وغيرها»، والتي نتج عنها استقلال اليونان وبلجيكا والصرب وبلغاريا ورومانيا وألمانيا، أو إلى مؤتمر السلام بباريس 1919ـ1920، الذي خلق دولا أوروبية جديدة ومحميات آسيوية، بل نحتها نحتا وأقامها على أنقاض الإمبراطوريات السابقة للحرب العالمية الأولى. ونتساءل: من بين كل هذا الخليط المتنافر من الأمم والقوميات المتنازعة، من هي تلك التي تمكنت من التفاوض حول سيادتها واستقلالها الذاتي؟ أو حول حدودها وادعاءاتها المالية؟

لم يكن ممكنا حتى تصور أن تتمكن واحدة من هذه الدول المستجدة سياسيا، والمنقوعة كلها في مزيج من الأحقاد الفولكلورية، الدينية والثقافية والسياسية، الراجعة إلى ما قبل التاريخ، من تحقيق لقاء للأفكار بينها وبين جيرانها. وفي أحسن حالاتها كانت الإجتماعات التي تعقد بينها، غير منتجة، أما في اسوأها، فلم تكن تنتهي بشيء غير الانفجارات والشجار.

وإذا ضربنا أمثالا معاصرة، فإن المبادرات التي قام بها الرئيس المصري أنور السادات والرئيس اللبناني بشير الجميل، للتعامل مع إسرائيل تعاملا ثنائيا، كانت نتيجتها اغتيالهما معا، وتحولت مبادرتاهما للسلام، بعد موتهما، إلى حقول ألغام من الهشاشة الدبلوماسية. وقد تطلب الوصول إلى «تسوية متفاوض عليها» بين إسرائيل والمملكة الأردنية الهامشية، شن حرب الخليج الأولى عام 1991، وعقد مؤتمر رعته كل من واشنطن وموسكو وعقد في مدريد «ثم انتقل بعدها إلى واشنطن».

ونكاد لا نجد استثناء واحدا لقاعدة أن الصكوك التي تصدرها القوة العظمى هي الوحيدة التي تضفي الشرعية على سيادة الدول الصغيرة المذعورة، وترسم حدودها المشتركة وتحسم مطالبها ومظالمها.

هل معنى ذلك أن الدول الكبرى تملك حقا سماويا لفرض تصوراتها الإقليمية على الضعفاء في هذا العالم؟ على مثل هذه الصرخة التي تقطع نياط القلب والتي سميت عام 1919 «تمرد القوى الصغيرة»، أجاب كل من جورج كليمانصو، ولويد جورج وودرو ويلسون، بنفس العبارات تقريبا. فالخوف من الأصوات التي سترتفع في المستقبل مطالبة بضم هذا الإقليم وإرجاع ذاك، هو الذي دفعهم لإجراء جراحاتهم الدبلوماسية الخاصة، لاستئصال النزاعات الإقليمية والأحقاد التاريخية. وعلى كل حال، فإن وجود هذه الدويلات نفسها كان موضع شك كبير لولا التضحيات الجسام للدول العظمى.

وعلى نفس المنوال، لا يمكن تصور قيام دولة إسرائيلية أو فلسطينية، إذا كان هذا الأمر يتوقف على اتفاق في الأفكار بين اليهود والعرب وحدهم. وبعد الحرب العالمية الأولى كان الحلفاء الغربيون المنتصرون هم الذين رسموا المعالم الجغرافية السياسية للدول العربية وللدولة اليهودية في نفس الوقت. وبعد الحرب العالمية الثانية كانت الأمم المتحدة هي التي فرضت تقسيم فلسطين إلى كيانين إسرائيلي وعربي، يتمتعان بالسيادة.

لا أحد يدعي أن تلك التصرفات أنتجت مثالا للعدالة والمساواة، دع عنك احتواءهما على وصفات لحسن الجوار. ولكن إطارهما المفهومي، مثله مثل ذلك الذي أنجب الدول الأوروبية التي خلفت الامبراطوريات، استطاع أن يتخطى سلسلة من ردود الفعل القائمة على المقاطعة والحروب. وضمن ذلك الإطار الإثنوغرافي، برز جسمان، أحدهما بالقانون، والآخر بفعل الأمر الواقع، وتحصلا في نفس الوقت تقريبا، على اعتراف دولي يكاد أن يكون متوازيا.

وفوق ذلك الاعتراف، حصل كل من الكيانين المتنافسين على الارض المقدسة، على قوة لم يكن من الممكن توفيرها ذاتيا. فبدون العون المالي، الأميركي ـ الألماني، كانت إسرائيل قد راحت ضحية الإفلاس منذ أيامها الأولى. ولم تكن قواتها المسلحة لتصمد أمام شبكة متماسكة من الدول العربية الحاصلة على الدعم السوفياتي، لولا الاسلحة الفرنسية والأميركية. وعلى نفس المنوال، فإنه إذا لم تنل السلطة الفلسطينية الدعم المالي الكامل وغير المحدود من الاتحاد الأوروبي، فإن حكومة ياسر عرفات كانت ستنفجر من الداخل غارقة في براثن عجزها وفشلها.

ويمكن القول إن الولايات المتحدة واوروبا الغربية، وأخيرا، الدول العربية «المعتدلة»، قامت جميعها بالتزاماتها نحو الإسرائيليين والفلسطينيين. ويواجه كل من هؤلاء المشاركين مخاطر عميقة تتعلق بمصالحه، إذا تركت القضية الإسرائيلية ـ الفلسطينية، مثلها مثل أزمة البلقان عام 1914، لتنشر سمومها بمعدلاتها الجينية الخاصة.

إن الحروب العربية ـ الاسرائيلية، 1948، 1956، 1967، 1973 و2002، زادت جميعا من احتمالات المواجهة العالمية بين الدول الكبرى، وأدت إلى إغلاق الممرات المائية العالمية، وإيقاف إمدادات الطاقة، والاغتيالات السياسية والإرهاب المؤسسي، وأخيرا، وهذا أخطر التطورات، احتمالات اللجوء إلى استخدام أسلحة الدمار الشامل.

وسيط أمين؟ مفاوضات؟!.. إن تجمعا للقوى العظمى، الثقيلة الوزن، مثل الاتحاد الأوروبي وروسيا والولايات المتحدة، هو الذي يجب أن يتخلى عن دور الوسيط ويتبنى دور اللاعب الأساسي. وتواجه قادة هذا التجمع الآن مسؤولية تاريخية ملحة بالتوقيع على مسودة مشابهة تتعلق بالقدس، لا تعكس فقط حكمتهم كمجموعة، بل تنال الموافقة الضمنية لـ «الأغلبية الصامتة» من فلسطينيين وإسرائيليين ويهود أميركيين حسب استطلاعات الرأي.

هل يمكن لمخطط كهذا أن يفرَض على الجميع بموجب إنذارات أميركية ـ وأوروبية ذات طبيعة دبلوماسية واقتصادية؟

يجب أن يُقلب السؤال. فبدون مباركة القوة العظمى دبلوماسيا وتقديم الدعم الاقتصادي لما وجدت فلسطين أو إسرائيل! وبدون وجود دعم متواصل من الأميركيين والأوروبيين، هل كان بإمكان هؤلاء المطالبين الصغار بالاعتراف الدولي والباحثين عن حسن النوايا، أن يحافظوا على المصداقية السياسية أو المقدرات المالية حتى لفترة مستقبلية قصيرة؟ كذلك بدون وجود ضغط كبير من القوى العظمى لن يكون بإمكان شارون أو عرفات قبول مواجهة المخاطر السياسية عن طريق تبنيهما للأسلوب البراغماتي لتحقيق الهدوء على الجانبين، ناهيك من وجود معاهدة سلام ذات أرضية مؤسساتية؟

حظ سعيد.

*خدمة لوس انجيليس تايمز ـ خاص بـ«الشرق الاوسط»