من سايكس بيكو إلى الشرق الأوسط الكبير

TT

منذ ان حلت الولايات المتحدة على الشرق الأوسط جارة عزيزة على سورية، تخطت العلاقة السورية ـ الاميركية الشكليات الدبلوماسية الى الاعتبارات الميدانية: تهمة «زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط» صارت تعني زعزعة ما يسمى ـ تهذيبا ـ «بالوجود» الاميركي في العراق. وتهمة اعاقة تطبيق النظام الديمقراطي في الشرق الاوسط صارت تعني معارضة المخططات الاميركية لعراق ما بعد صدام حسين. وتهمة «دعم الارهاب» صارت تعني غض النظر عن تسلل مقاومي «الوجود» الاميركي الى العراق عبر الحدود المشتركة للدولتين.

الاتفاق على المصطلحات السياسية التي تتحكم بدبلوماسية واشنطن في الشرق الاوسط اصبح، بعد 11 سبتمبر (ايلول) 2001، من رابع المستحيلات... فكم بالحري الاتفاق معها على رؤية عربية ـ أميركية مشتركة للشرق الأوسط الجديد؟ ... والمشكلة انه في مفهوم «المحافظين الجدد» يتقرر مصير الشرق الاوسط في لقاءات مغلقة لعدد من منظري اليمين الجمهوري في واشنطن ـ الملقبين بالـ «Think Tank» ـ وفي اروقة الكونغرس المضيافة فوق العادة لعملاء اللوبي الصهيوني لذلك تبدو الرسالة الدبلوماسية الأبرز لقانون «محاسبة سورية واستعادة سيادة لبنان» الذي أقره الكونغرس ليس فقط تكريسه حق الزعامة الأحادية في اتخاذ قرارات أحادية في الشرق الأوسط، بل ابلاغه دول المنطقة ان صيغة «سايكس ـ بيكو» البريطانية الفرنسية الثنائية، التي افرزتها الحرب العالمية الاولى، اندثرت لصالح صيغة أميركية أحادية أفرزتها حرب العراق اسمها مشروع الشرق الأوسط الكبير.

في هذا الاطار، اطار الشرق الاوسط الاميركي «الكبير»، سوف تُزج العلاقة السورية الاميركية. وإذا جاز تلمس ابعادها على خلفية المعطيات الدولية الراهنة فقد يصح توقع مرورها بمرحلتين، احداهما تكتيكية تفرضها هذه المعطيات على المدى القصير، وثانيتهما استراتيجية تستوجبها بوادر الاقامة الاميركية الطويلة بين احضان عرب الشرق الادنى كما يبدو من الالتزام المالي الضخم بما يسمى اعادة إعمار العراق (87 مليار دولار بدون احتساب النفقات العسكرية المتزايدة) والمشاريع المعدة «لتأهيل» هذه الاقامة ـ تحديدا مشروع الشرق الاوسط «الكبير».

خلال المرحلة الاولى ـ التي قد يحدد فترتها الاستحقاق الرئاسي الاميركي في نوفمبر(تشرين الثاني) المقبل ـ ستكون الادارة الاميركية أكثر حاجة «لتعاون» سوري معها على استعادة الاستقرار الامني في العراق. ومع استمرار انشغال الادارة الاميركية بايران وافغانستان وكوريا الشمالية، يصعب توقع تجاوز حالة التوتر، في العلاقات السورية ـ الاميركية، اطار الدبلوماسية الناشطة، والحارة احيانا، خصوصا في حال تيقن الادارة الاميركية من جدية التزام سورية بضبط الحدود المشتركة مع العراق وإغلاق مكاتب المنظمات الفلسطينية المصنفة «إرهابية» وربما التفاهم معها على جدول زمني لخروج القوات السورية من لبنان.

أما المرحلة الثانية ـ والأدق إذا ما اعيد انتخاب جورج بوش لولاية رئاسية ثانية ـ فرغم خطورتها المحتملة قد لا تشكل مبررا كافيا لان تعتبر واشنطن ان تصعيد ضغوطها الدبلوماسية على سورية الى مستوى الضغوط العسكرية سيكون أكثر جدوى من التفاهم معها على «ثوابت» معينة في الشرق الاوسط الكبير، ففي منظور واشنطن لا تزال سورية إحدى الدول العربية القلائل العلمانية النظام، والدولة التي تجنبت ادارة بوش ادراجها على لائحة دول «محور الشر» رغم كل ما وجهته اليها من اتهامات بتطوير اسلحة دمار شامل، والدولة الوحيدة التي تقيم علاقات دبلوماسية طبيعية مع واشنطن بين كل الدول المصنفة «مارقة»، بدليل تبادلهما التمثيل الدبلوماسي على مستوى السفراء حتى بعد قانون «محاسبة سورية».

وفي هذا السياق قد يساهم انفتاح دمشق على علاقات ودية مع تركيا الاطلسية وعلى استئناف المفاوضات مع اسرائيل الليكودية في امتصاص حرارة النقمة الاميركية عليها مما يفسح في المجال لتوقع تحول أزمة العلاقات السورية الاميركية، في المرحلة الثانية، من أزمة ثقة أميركية في دمشق الى أزمة تأقلم سوري محدود مع الشرق الاوسط «الكبير»... ونادرا ما جدفت سورية عكس التيار الدولي.