عقدة قطرية

TT

ذات مرة واثناء مشاركتي في تحكيم احدى الجوائز الادبية كنا نناقش أحقية شاعر خليجي بالجائزة وكان فعلا بين أقوى المرشحين وفجأة انبرى احد اعضاء اللجنة برفض قاطع على أساس ان الخليجي معه فلوس ويجب ان نعطي الجائزة لشاعر فقير.

وصعقت للفكرة مرتين الاولى لاني أعرف على وجه اليقين انه ليس كل خليجي معه فلوس وخصوصا ان كان من الفئة المنكوبة بحب الفن والادب وهذه النقطة ليست اساسية لأننا لسنا بنكا عقاريا ولا جمعية خيرية، والثانية وهي الاساس لأن أعتقادي حتى تلك اللحظة كان ينصب على قناعة لم تزحزحها الايام وهي ان القيمة المعنوية للجائزة أعلى من قيمتها المادية فحين تمنح الدولة او مؤسسة أهلية جائزة ما فهي تقول للمبدع قبل الفلوس وبعدها نحن نشكرك باسم المجتمع على ما قدمته لنا من متعة وفائدة.

في بريطانيا التي أقمت فيها أكثر من بلدي الاصلي سورية جائزة تمنحها سلسلة مكتبات ـ دبليو اتش سميث ـ قيمتها خمسة آلاف جنيه يعني الأقل بين كل الجوائز الادبية ومع ذلك تتقاتل الاسماء الكبيرة والمتوسطة والصغيرة للفوز بها وكل من يدخل الى الـ«شورت ليست» فيها يعتبر نفسه محظوظا، فجائزة من هذا النوع ترسخه وان لم يصبح مليونيرا كأديب كبير في ساحة تعرف تأثير القوة المعنوية للجوائز الادبية.

عندنا في العالم العربي غير التفكير المادي المطلق بالجوائز وقبولها مهما كانت الجهة التي تمنحها نوع من التفكير المناطقي القطري الذي يكاد يتحول الى عقدة يصعب حلها فهناك شكوى عامة بين الادباء والشعراء العرب بان معظم الذين يحصدون الجوائز يمثلون الابداع المصري وهذه حقيقة لا يمكن نكرانها ولكن بالامكان تفسيرها. فاكثر من سبعين بالمئة فعلا من الجوائز الادبية تذهب الى مبدعين واكاديميين من ارض الكنانة والتفسير ان مصر أكبر الأقطار العربية قاطبة من حيث عدد السكان والتعليم فيها هو الاقدم زمنيا فقد عرفت مصر المدارس في القرن الثامن عشر في حين لم تعرفها أقطار عربية اخرى الا من ربع قرن وهذه كلها مسائل لها حسابها في خلق المناخ الثقافي وتطوره وفي عدد ونوعية المبدعين والاكاديميين والمفكرين والمساهمين في الحقل الادبي.

وكنت قد لاحظت قبل سنوات ان عدد الفائزين المغاربة بجائزة العويس لا يتناسب مع حجم الابداع المغربي في المجالات الفكرية والفلسفية والنقد الادبي والعلوم الاجتماعية. ففي المغرب نهضة حقيقية وتفجر محمود على هذه الاصعدة جميعها. وقد أخبرني لاحقا الصديق عبد الحميد أحمد أمين عام الجائزة انهم أخذوا ذلك الانتقاد الموضوعي بكل جدية وأرسلوا وفدا الى المغرب لدراسة القضية وتشجيع الادباء والاكاديميين المغاربة على الترشيح والمشاركة في التحكيم.

وحين نصل الى التحكيم يتبين حجم المشكلة القطرية التي تنصب عليها الشكوى ففي هذه اللجان فعلا الاغلبية من مصر ونحن في النهاية لسنا ملائكة يعني لنا عواطفنا ومصالحنا واهواءنا ونزعاتنا القطرية.

وعلى فرض ان اعضاء لجان التحكيم كانوا على حجم المسؤولية وارتفعوا فوق المصالح والعواطف والنزعات فان معرفتهم بابداع بلدانهم تظل أعمق وأكثر كثافة من معرفتهم بابداع ادباء وكتاب من مناطق اخرى.

وأظن ان المطلوب بعد الترويج والتأكيد على ان القيمة المعنوية للجائزة تسبق قيمتها المادية احداث توازن مناطقي في لجان التحكيم ان امكن فهذا يقلل من امكانيات الانحراف مع الهوى القطري الذي لن تزيله نهائيا غير ثقافة منفتحة يحملها رعيل يؤسس لمصداقيته بتقديم قيم الابداع الاصيل ورفعها فوق جميع العناصر والاحتكام اليها كبديل منطقي ـ لا مناطقي ـ عن المصالح والعواطف والميول الشخصية والنزعات القطرية وأحكام التعصب والهوى.