سيسفوس الطماع

TT

من العناصر التي ادت الى تخبط المعارضة العراقية ونظام الحكم الانتقالي التدخل الامريكي. الولايات المتحدة دولة ديمقراطية وتدعو للديمقراطية، ولكنها غير مؤهلة لقيادة الديمقراطية في العالم. السبب في ذلك ان ديمقراطيتها تقوم على فلسفة خاطئة وهي المنفعة الفردية. يقاس الرجل فيها لا بحسب ما قام به من اعمال وانما ما جمعه من اموال. السياسي الناجح هو من يفوز بالرئاسة. ومن يفوز بالرئاسة هو من تسانده الشركات الكبرى واللوبيات السياسية. ويتوقف نجاح هذه الشركات واللوبيات على توفير الغنائم لاعضائها. يعني ذلك ان الفوز بالرئاسة والزعامات يتطلب الخضوع لمصالحها. تساند امريكا الديمقراطية في تايوان لأن سياسة حكومتها تمالئ هذه المصالح. ولكنها بذلت قصاراها لاسقاط الديمقراطية في شيلي لأنها عارضت مصالحها. فما تقوله الاسطورة الاغريقية هو ان الآلهة عاقبت سيسفوس بالصخرة لطمعه.

مما يسهل هذا الاتجاه سذاجة الناخب الامريكي وتركيزه هو ايضا على منافعه الذاتية الآنية. انه بعيد عن العالم القديم وقلما يعبأ بالسفر خارج بلاده وتربى على روح الانعزالية المتمثلة بتقاليد مبدأ مونرو. امريكا للامريكيين وبقية العالم للكلاب. انه لا يعرف شيئا عن فلسطين او الشرق الاوسط. عندما انزلوا جنودهم في لبنان ابان ثورة 1958 في العراق، سأل احدهم بائع الآيس كريم على كورنيش بيروت، «هاي! هل هذا بلد العراق؟».

لهذا سهل على اللوبي الصهيوني وشركات النفط تمرير ما يريدون من سياسات. لا اتصور الامريكان يقومون بما قام به الانجليز عام 1956 عندما اسقطوا حكومتهم لاعتدائها على مصر. عارضوا حرب فيتنام في الاخير فقط عندما بدأت تأكل اولادهم واموالهم. انهم يطالبوننا باحترام القوانين وحقوق الانسان، ولكنهم تجاهلوا كل ذلك (غوانتانامو) عندما تعارضت مع مصالحهم وامنهم.

سر تبني امريكا للديمقراطية في العالم هو انها تسهل لهم التغلغل في اسواقها والحصول على مواردها واجتثاث الارهاب (الذي يناقض مصالحها) منها. ولكن عندما ستتناقض الديمقراطية مع اهداف الشركات واللوبيات فستبذل قصاراها على قتلها او تحريفها او فرض ارادتها عليها. وهذا هو الموقف في العراق فعواطف الجمهور ضد امريكا تقليديا وضد اسرائيل حتميا. والمطلوب من واشنطن قيام نظام يصالح اسرائيل ويفتح الابواب لشركاتها وللمصالح النفطية والتجارية الامريكية. وهذا ما اصبح يشوه مسعى دول التحالف لاقامة الديمقراطية.

جوهر المعضلة لا يدور حول المنازعات الحزبية او الفئوية او الطائفية بقدر ما يدور حول ضمان قيام نظام يذعن لمخططات الشركات الامريكية واللوبي الصهيوني ويسمح لاقامة قواعد عسكرية امريكية تسهر على هذا الاذعان واستمراره.

وكما قلت، اضطربت المعارضة العراقية قبل التحرير، واستمر اضطرابها بعد التحرير بسبب هذا المسعى المتناقض بين تبني الديمقراطية وفرض الارادة الامريكية عليها وما ادى اليه ذلك من تبني فئات وشخصيات يرفضها الناخب العراقي. التناقض الحقيقي ليس في ارادة العراقيين، هذه المنافسات والمنازعات موجودة في كل الدول، خاصة في مراحل تأسيسها. التناقض الحقيقي والجوهري يكمن في الارادة الامريكية.

تواجه امريكا وبريطانيا الآن اصعب امتحان لهما في المصداقية وبناء عالم جديد يسعي فيه القوي لانتشال الضعيف ووضعه على الطريق السوي.

هل ستسمحان للشعب العراقي بمزاولة حقه في انتخاب من يشاء حقا حتى اذا تعارض ذلك مع مصالحهما ومشيئة اسرائيل؟