يالطا وشوارب وعناقف

TT

كانت يالطا المدينة التي اقتسم فيها رابحو الحرب العالمية الثانية، دول وشعوب الارض. وحتى انهيار الاتحاد السوفياتي كانت «اتفاقات يالطا» هي الخطوط الحمراء التي لا يجرؤ علي مسها احد من الكبار او الصغار. لكن سبق اقطاب الحرب العالمية الى هذه المدينة في الهزيع الاخير من القرن التاسع عشر، قطب الرواية الكلاسيكية الروسية انطون تشيكوف، ذلك العملاق الانساني الذي درس الطب ولم يجن منه فلساً، ولم يدرس الكتابة لكنه تحول الى استاذ من اساتذتها التاريخيين، ومنها وحدها عاش وأعال.

اصيب تشيكوف بالسل فلم يعد قادراً على تحمّل البرودة والرطوبة في موسكو وسانت بيترسبرغ، فحمل نفسه وإخوته وجاء الى يالطا الاكثر دفئاً، يكتب بعض اجمل روائع الادب الروسي. لكن يالطا الدافئة لم «تكن شيئاً سوى رياح ساخنة وغبار». وسوف يشير عليه الطبيب بالانتقال الى مصح بادن فيلر الالماني، فيحمل حقائبه ويمضي. لم تكن النصيحة وحدها سيئة وقاضية بل النساء الالمانيات ايضاً. ففي آخر رسالة كتبها في حياته العام 1904 يقول في جنون: «ليست هناك امرأة المانية واحدة على قدر مقبول من الاناقة. ان الافتقار الى الذوق يبعث الاحباط في النفس». وقبل ذلك بشهر واحد كان قد كتب في رسالة اخرى «ليس هناك من بلد آخر في العالم ترتدي فيه النساء مثل هذه الثياب البشعة. لم ارَ امرأة جميلة واحدة، او اي واحدة لا ترخي ضفيرة سخيفة».

في تلك المرحلة بالذات التفت احمد فارس الشدياق الى المرأة الاوروبية الخشنة فرأى فيها رأي تشيكوف فقال «ومن قبح عاداتهم (الرجال) حلقهم شواربهم ولحاهم فترى الشيخ الهرم منهم كالقرد مجرداً عن الهيبة والوقار كتجرده عن الشعر. وما كفاهم ذلك بل شغفوا بالنساء اللائي لهن شوارب او عناقف او عوارض، فخالفوا الطبيعة في الحالتين».

لم يحب تشيكوف من المدن سوى غرناطة التي طالما حلم بها. وكانت هي مقياس جمال المدن لديه. ولذا فإن ابطاله سوف يتساءلون دائماً بسخرية: «وهل تظن نفسك في غرناطة؟» فما انت الا رجل من يالطا ذات الريح والغبار!». على ان المرأة الالمانية التي رآها تشيكوف اواخر القرن التاسع عشر، ظلت على هذه الحال حتى اوائل النصف الاخير من القرن العشرين. اي مسألة الشاربين الخفيفين وسوى ذلك. ولكن في الحالتين كان السبب هو الفقر والحروب التي تركت اثرها في المجتمع الالماني. وكذلك التقاليد. فقد كان بعض الالمان ينظرون الى المرأة الخالية من بعض علامات الاسترجال، او التي تنصرف الى المساحيق، على انها بعيدة عن الضوابط الاخلاقية. وعندما سافرت الى المانيا في المرة الاولى كانت هذه العادات لا تزال شائعة. والفقر في لندن اواخر القرن التاسع عشر هو الذي جعل احمد فارس الشدياق يرى المرأة البريطانية كما رآها. وفي اي حال لم يكن في حاجة الى مشاهدة امرأة سقيمة لكي ينتقد الانكليز ونساءهم. فقد حمل عليهم في مختلف نواحي الحياة. وكان ذلك غالباً بسبب خلافه معهم حول قضايا مالية. فقد عمل لديهم مترجماً في لندن ومالطا وتذمر كثيراً من التباخل في الشيلينات والجنيهات.