لغـز العمليات الهجــومية في العـراق ..!

TT

منذ أن أُستهدفت السفارة الاردنية في بغداد بتلك العملية التفجيرية التي أصابت مبناها بأضرار كبيرة وأدت الى قتل عدد من المارة العراقيين ثم تلاحقت بعد ذلك الاغتيالات وعمليات التفجير والإغارات على الشرطة العراقية، قيد التكوين والإنشاء، وعلى قوات التحالف، والأسئلة تتلاحق بلا أجوبة شافية حول الجهة أو الجهات التي تقف خلف هذه العمليات، وهل هي جهات خارجية أم داخلية؟!

آراء كثيرة طـُرحت وقيلت في هذا المجال فالبعض اتهم الايرانيين والفصائل العراقية المحسوبة عليهم والبعض اتهم دولاً عربية مجاورة والبعض تحدث عن مجرد دوافع ثأرية وانتقامية بينما الأميركيون بقوا يصرون على ان المسؤولية الأولى تقع على عاتق قوى وتنظيمات تتسرب من الخارج وفي مقدمتها منظمة «القاعدة».

كلُّ هذه الاتهامات ترددت ولا تزال تتردد ولعل أهــم ما تجدر الإشارة إليه ونحن بصدد الحديث عن هذا الموضوع هو أن الأميركيين إذْ يصرون على مسؤولية «القاعدة»، وتنظيمات خارجية يتسرب أفرادها عبر بعض الحدود المجاورة، عن كل هذا الذي يجري بكل أشكاله فلأنهم يريدون تأليب الشعب العراقي على الذين يقومون بهذه العمليات وتصويرهم بأنهم غرباء لا يريدون استقرار العراق ويستهدفون وحدته ويسعون لإغراقه بالدماء والحروب الأهلية.

والواضح وفقاً لكل المعطيات والتقديرات وقناعات العراقيين ان ما حدث وما يزال يحدث كل يوم لا تتحمل مسؤوليته جهة واحدة وأن هذه العمليات التي تستهدف المدنيين العراقيين والبعثات الدبلوماسية والأمم المتحدة، على حد سواء، تقف خلفها أكثر من جهة وأن لكل واحدة من هذه الجهات أهدافها التي تسعى لتحقيقها بغض النظر عما تخلفه العمليات المذكورة من ويلات ومآسٍ بالنسبة للناس الابرياء الذين تـُزهق أرواحهم وتدمر وتحرق ممتلكاتهم بلا أي ذنب اقترفوه.

فهل يعقل يا ترى ان الاميركيين بكل تفوقهم التقني وبكل إمكانات أجهزتهم الامنية والبشرية غير قادرين على تحديد الجهة الرئيسية المسؤولة عن هذه العمليات .. ثم هل يمكن تصديق أن منظمة «القاعدة» التي تجري مطاردتها في كل مكان والتي تشنُّ عليها حرباً كونية منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر ( أيلول) الشهيرة قادرة على القيام بعمليات من هذا الحجم وبكل هذه الدقة والتنظيم والكفاءة؟!

إما أن الأميركيين لا يعرفون الحقيقة وما زالوا يتخبطون فعلاً خبط عشواء، وهذه نقيصة ما بعدها نقيصة وعيب ما بعده عيب بالنسبة لدولة بكل هذا التفوق والاقتدار، وإما أنهم يعرفون كل شيء ولكنهم لا يريدون قول ما يعرفونه لأغراض في نفوسهم ستكشف عنه الأيام وهذا موقف يقترب من الجريمة إزاء بلد ينزف كل هذه الشلالات من الدماء ويتعرض لكل هذا التدمير والتمزق.

وأغلب الظن ان ما لا يريد الأميركيون الاعتراف به وإعلانه لأسباب تخصهم وتخص مستقبل وجودهم في العراق وفي المنطقة هو ان فلول النظام السابق هي المسؤولة عن هذه العمليات بالجزء الرئيسي منها وهذا لا ينفي ان هناك جهات اخرى ولكنها ثانوية تشارك ببعض العمليات إما بدوافع ثأرية وإما لحسابات خاصة وإما بدفع من جهات خارجية يهمها ان تفرض نفسها كأطراف مؤثرة في معادلة المنطقة بعد احتلال العراق.

قبل أيام جرى اعتقال محمد زمام عبدالرزاق السعدون وزير الداخلية الأسبق في النظام السابق ومسؤول حزب البعث في محافظتي الموصل وكركوك وهما محافظتان تنشط فيهما العمليات القتالية ضد قوات التحالف وضد الشرطة العراقية وضد أنابيب النفط وضد الأهداف المدنية، ولقد بقي هذا الرجل الذي يحمل الرقم «41» في قائمة المطلوبين لقوات الاحتلال يختفي في هذه المنطقة، التي توصف بأنها المثلث السني، منذ احتلال بغداد قبل نحو عام.

وبعد اعتقال السعدون تم الاعلان عن أن أحد عشر مطلوباً من الذين تضمنتهم القائمة المذكورة ما زالوا طلقاء وهؤلاء بالإضافة الى نائب الرئيس العراقي عزت إبراهم الدوري هم: المسؤول السابق للقوات الأمنية الخاصة الذي يحمل الرقم 7 هاني عبداللطيف الطلفاح التكـريتي ورئيس أركان الحرس الجمهوري صاحب الرقم 14 سيف الدين فليحِّ حسن طه الراوي ومدير الامن العام صاحب الرقم 15 رافع عبداللطيف الطلفاح التكريتي ومدير الاستخبارات صاحب الرقم 16 طاهر جليل حبوش التكريتي ومسؤول مكتب العشائر صاحب الرقم 21 راكان رزوقي الغفار سليمان المجيد والمستشار في الرئاسة صاحب الرقم 36 سبعاوي ابراهيم حسن، الأخ غير الشقيق لصدام حسين، والمسؤول العسكري لحزب البعث في محافظة ديالى الذي يحمل الرقم 40 عبدالباقي عبدالكريم عبدالله السعدون ومسؤول حزب البعث في البصرة ورقمه 44 يحيى عبدالله العبيدي ومسؤول البعث السابق في محافظة صلاح الدين الذي يحمل الرقم 45 نايف شنداخ ثامر ومسؤول البعث في محافظة الأنبار صاحب الرقم 46 رشيد طعان كاظم.

وكما هو واضح فإن معظم هؤلاء المذكورة أسماؤهم لهم مسؤوليات وصفات عسكرية وأمنية ولذلك فإن كل من يهمه البحث عن الذين تقع عليهم مسؤولية العمليات العسكرية بكل أشكالها ومَنْ منها يستهدف المدنيين الأبرياء ورجال الدين من كل المذاهب والطوائف ومَنْ منها يستهدف الشرطة العراقية وقوات التحالف لا بد من ان يدقق في هذه الاسماء ولا بد من ان يضع في الاعتبار أن أصحابها وربما معهم آخرون هم القيادة الفعلية لما يسمى بالمقاومة العراقية ولما يسميه المناوئون في الداخل والخارج «الإرهاب» الذي يخبط خبط عشواء والذي يستهدف الشعب العراقي والوحدة الوطنية العراقية.

وهنا، ونحن بصدد الحديث عن هذه المسألة، لا بد من الإشارة الى ان حزب البعث منذ ان أخرجه الرئيس العراقي الأسبق عبدالسلام عارف من السلطة في نهايات العام 1963 وانفرد بها بعد شراكة استمرت نحو تسعة شهور بعد انقلاب الثامن من فبراير (شباط) الذي أطاح نظام عبدالكريم قاسم وهو أي حزب يحتفظ بجهاز أمني وعسكري سري لا يعرف عنه إلا عدد محدود جداً من أعضاء القيادة من بينهم دائماً وباستمرار صدام حسين.

كان هناك جهاز سري لحزب البعث حتى قبل الإطاحة بنظام عبد الكريم قاسم ولقد قام هذا الجهاز، وأسمه جهاز «حنين» بمحاولة اغتيال عبد الكريم قاسم التي شارك فيها صدام حسين الى جانب آخرين ولقد بقي هذا الحزب حتى بعد ان استعاد السلطة في يوليو (تموز) 1968 يحتفظ بهذا الجهاز الذي يسود اعتقاد بأنه المسؤول عن تصفية كبار القادة البعثيين الذين أدت تصفيتهم الى انفراد الرئيس السابق في عام 1979 بالسلطة وبصورة مطلقة.

ما كان صدام حسين يطمئن ولو ليوم واحد للمحيطين به او الوثوق بهم ولذلك فإنه بقي يحتفظ بتنظيم سري يأخذ طابع تنظيم عصابات المافيا وهو تنظيم يرتبط به مباشرة والمؤكد أنه قد أعد هذا التنظيم إعداداً جيداً منذ بدايات تسعينات القرن الماضي ليكون أداته للعودة الى الحكم في حال سقوط نظامه إن بغزو عسكري من الخارج وإن بحركة مناوئة داخلية.

إن هذا شيء مؤكد وأغلب الظن أيضاً أن هذا التنظيم السري الذي تتوفر له قيادة من الأسماء الآنفة الذكر كان يعتقد قبل اعتقال صدام حسين بالصورة التي اعتقل بها انه قادر على استعادة الـحكم كما استعاده من عبدالسلام وعبدالرحمن عارف في انقلاب يوليو (تموز) عام 1968.

أما الآن وبعد القبض على صدام حسين فإن هذا الجهاز الذي تمرس في القمع والاغتيالات طويلاً فإن عمله بات بصورة رئيسية يتركز على منع قيام سلطة مكان السلطة المنهارة ولذلك فإنه بات يستهدف الشرطة العراقية ويستهدف الأهداف المدنية لإثارة الفوضى ولإشعار العراقيين بأن البديل عن نظام حزب البعث هو الاقتتال والخراب والحرب الاهلية وأن الاحتلال لم يأتِ لهم إلا باختلال الأمن والمزيد من الفقر والفاقة.

والمؤكد أن هذا التنظيم الذي تقوده قيادة تعرف العراق والجيش العراقي معرفة جيدة قد استغل والى أبعد الحدود تهميش دور السنة في العهد الجديد كما شكل له حل الحزب والجيش والاجهزة الامنية المستودع البشري الذي لا ينضب لتجنيد الانتحاريين والمجموعات التي تقـوم بالعمليات المذكورة ضد قوات الشرطة وضد قوات التحالف على حد سواء.

ستكشف الأيام هذه الحقيقة وستكشف الأيام أيضاً أنه لولا وجود بعض التنظيمات الشيعية والقوى الكردية الممثلة بالحزبين الرئيسيين الحزب الديموقراطي وحزب الاتحاد الوطني لكان هناك فراغ سياسي مطبق وتام ولاستطاع التنظيم السري الآنف الذكر فرض نفسه على المدن والقرى العراقية والمؤكد ان هذا التنظيم سيفرض نفسه ذات يوم على هذه المدن والقرى إذا بقيت الأمور تجري على هذا النحو وبهذه الطريقة.

مرة أخرى لا بد من التأكيد على ان هناك أطرافاً متعددة لها مصلحة في ما يجري في العراق وتشارك بصور مختلفة في بعض العمليات التي تجري هناك لكن وفي كل الأحوال فإن كل المعطيات المتعلقة بما يجري في العراق تشير الى ان التنظيم الموازي الذي كان يـُطلق عليه اسم جهاز «حنين» هو المسؤول عن هذه العمليات التي لم يعد هناك أي شك في أن هدفها الرئيسي هو إغراق العراق في الفوضى والاحتراب ومنع قيام سلطة بديلة للسلطة المنهارة.