وجاء دور التنفيذ: مشروع الشرق الأوسط الكبير

TT

منذ أحداث 11 سبتمبر عام 2001 ـ بل وقبل ذلك، ولكن أحداث سبتمبر عجلت بالمشروع ـ كان واضحاً أن هنالك سياسة جديدة للولايات المتحدة بالنسبة للعالم كافة، وبالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط خاصة. فمع سقوط الاتحاد السوفياتي، وتفرد الولايات المتحدة بالسيادة العالمية، خطت الولايات المتحدة خطوات سريعة نحو بناء امبراطوريتها العالمية.. هذه الامبراطورية التي بدأت الولايات المتحدة في دخول مرحلتها حقيقة بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتسارعت الوتيرة مع سخونة الحرب الباردة بين عملاقي ما بعد الحرب. ومع سقوط الاتحاد السوفياتي، تسارعت الوتيرة أكثر، على اعتبار أن النموذج الأميركي في العيش هو الذي انتصر في النهاية. ومع أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بدأت الولايات المتحدة بالعمل الفعلي في بناء تلك الإمبراطورية، سواء بالعسكرة المباشرة، كما هو الحال في العراق وأفغانستان ودول أخرى قد تكون مرشحة مستقبلاً، أو بالضغوط الاقتصادية كما هو الحال مع معظم دول العالم حتى قبل سبتمبر، أو بالتبشير الثقافي والسياسي المجرد. المهم في الأمر هو أن الولايات المتحدة عازمة، وخاصة في أعقاب سبتمبر، أن تبني «عالماً على شاكلتها»، أو ما يسميه البعض أمركة العالم، إن لم يكن بالترغيب فلا شك أنه بالترهيب. فأحداث سبتمبر أدت، فيما أدت إليه، إلى السيطرة الكاملة لليمين المسيحي الجديد على مجريات الأمور في واشنطن، وانتصار وجهة نظر أصحاب نظرية «صدام الحضارات»، وهم من يمزج ما بين المصلحة القومية الأميركية والقيم الأميركية، في مقابل أولئك الذين ينادون بحوار الحضارات وتفاهمها، الذين يفصلون ما بين المصلحة والقيمة، أو حتى في مقابل المخططين الاستراتيجيين ما قبل انتهاء الحرب الباردة، الذين كان همهم المصلحة القومية فقط، من دون اعتبار لأي شيء آخر.

والحقيقة أنه كان واضحاً منذ البداية إذاً أن الولايات المتحدة عازمة على بناء الامبراطورية الأميركية الجديدة، كنوع من بعث جديد للامبراطورية الرومانية القديمة، ولكن بتقنية متقدمة هذه المرة، محولة التجربة الأميركية في بناء الدولة ذاتها إلى تجربة عالمية، أي تأسيس ولايات متحدة عالمية، ولكن كان توقع ذلك من التنبؤات التي تقوم على تعدد السيناريوهات المحتملة، التي قد تتحقق وقد لا تتحقق. اليوم، وبعد أن تقدمت الولايات المتحدة بمشروعها، مشروع الشرق الأوسط الكبير، لقمة مجموعة الدول الصناعية الثماني، المزمع عقدها في سي آيلاند، جورجيا، لتبنيه في يونيو المقبل، والربط بين هذا المشروع وخطاب الرئيس بوش في مكتبة الكونغرس في الرابع من شهر فبراير في ذكرى ونستون تشرشل، يبدو وكأن الخطة الأميركية لتغيير الخريطة السياسية، وربما الجغرافية، لمنطقة الشرق الأوسط قد أصبحت مسألة وقت ليس إلا، في ظل يمين ديني يرى أنه بذلك إنما يحقق إرادة الله على الأرض، كما تفعل «القاعدة» والأصولية الجهادية بالضبط، ولكن مع اختلاف في محتوى الإرادة بالنسبة لكل طرف.

فكما أن مفهوم الفسطاطين المتناحرين لدى الأصولية الجهادية قد أدى إلى توتر العالم في أعقاب سبتمبر، فإن الحل العسكري الذي يتبناه اليمين الأميركي الديني الجديد، سيؤزم العالم بدل أن يؤدي إلى استقراره في ظل الباكس أميركانا. مساعدة أميركا دول العالم كي تساعد نفسها، سواء سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو ثقافياً، هو المدخل المناسب لتحقيق الهدف، وليس الفرض وسياسة القوة العسكرية. فالأمركة عن طريق العسكرة ستؤدي في منطقة مثل منطقتنا مثلاً إلى نمو الأصولية، وهذه بدورها ستزيد من محاولة الأمركة عسكرياً في حال استمرار حكم اليمين الجديد، لتزداد الأصولية، وهكذا دواليك. وإذا كان مطلوباً من دول المنطقة التخلص من الأصولية المغالية من أجل أمن العالم، فإنه من المهم أن تدرك الولايات المتحدة أن الأمركة المفرطة والمرتبطة بالحل العسكري، قد تؤدي إلى عكس مرادها، ويكون العنف المجرد هو النتيجة، فالأصوليون والجهاديون، مسلمين ومسيحيين على الجانبين، خطر على رفاه واستقرار وأمن العالم.

بعبارة أخرى، فإنه إذا كانت الأصولية الإسلامية، والأصولية الجهادية تحديداً، هي المسؤولة عن انفجار الأوضاع وتأزمها بين المسلمين وأميركا، فإن الأصولية المسيحية، والأصولية التي تعتقد في الحل العسكري تحديداً، هي المسؤولة عن تزايد المد الأصولي في المنطقة، وذلك حين تحاول أمركة العالم حتى لو كان ذلك بالقوة العسكرية، وفي النهاية فإن كلتا الأصوليتين وجهان لعملة واحدة. والحقيقة أنه لا تثريب على الولايات المتحدة في السعى نحو تحقيق غاياتها بالصورة التي تراها مناسبة، فهي دولة تسعى إلى تأمين مصالحها وأمنها، والتمتع بثمرات القوة والمجتمع المتقدم الذي حققته، ولكن اللوم يكون منصباً على هذه السياسة أو تلك لتناقضها مع حكمة أن أمن الولايات المتحدة ينبع أيضاً من أمن الآخرين، ورفاهها لا يكون إلا من خلال رفاه الآخرين، واستقرارها لا يكون إلا باستقرار الآخرين، ومن هنا يمكن نقد السياسة الأميركية، أما المبدأ فهو حق للجميع، سواء كانت أميركا أو غيرها. فأن تكون الولايات المتحدة اليوم هي القوة الأوحد في عالم اليوم، يفرض عليها مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون سياسية في بناء عالم خال من المشاكل. أن تحاول الولايات المتحدة أمركة العالم، على أساس أن ذلك ضمانة لأمنها القومي ومصلحتها الوطنية، سياسة خاصة بها، ولها الحق في أن تفعل ما تشاء من أجل ذلك الهدف، كما هو حق الآخرين أيضا. ولكن كيف تكون الأمركة، وكيف يمكن تحقيق الهدف؟ هذا هو السؤال هنا.

ورغم أن الولايات المتحدة تريد أمركة كل العالم، إلا أنها تتعامل مع منطقة الشرق الأوسط، والشرق الأوسط الكبير، كما يسميه المشروع (كل الدول العربية، بالإضافة إلى تركيا وإيران وباكستان وأفغانستان وإسرائيل) كحالة خاصة، تختلف عن بقية العالم. فهذه المنطقة، وفق المنظور الأميركي، ذات طبيعة مختلفة، فهي عصية على التغيير، مقارنة ببقية مناطق من العالم، كما أنه يُنظر إليها على أنها الحاضن الأول للإرهاب، فكراً وعملاً، والذي هو اليوم العدو الأول لذات الكيان الأميركي، مع استبعاد إسرائيل من هذا المنظور، على أساس أنها امتداد أميركي مهدد في المنطقة، مثلها مثل أميركا ذاتها، ويهدف المشروع إلى صيانة أمنها بالتالي كجزء من الأمن القومي الأميركي. تغيير هذه المنطقة، وفقاً للمنظور الأميركي، يعتبر أمراً ضرورياً من أجل الأمن القومي الأميركي، وهذا التغيير يجب أن يكون على مختلف الأصعدة: سياسياً، ثقافياً، اقتصادياً، واجتماعياً.

لم تكن الولايات المتحدة حقيقة تهتم كثيراً بالأوضاع الداخلية لأية دولة قبل سبتمبر، ولم تكن تهتم إطلاقاً بمثل هذا الأمر قبل انهيار الكتلة الشرقية، إلا في حالات نادرة يكون التدخل فيها ملحاً، كجزء من الحرب الباردة، بدعم لهذا النظام كي لا يسقط في أحضان الشيوعية، أو إسقاط لذاك النظام بعد أن تحالف مع الشيوعية، أو بدا أنه كذلك (مثلاً: ايران 1953، غواتيمالا 1954، 1963، الدومنيكان 1963، 1965، البرازيل 1965، شيلي 1973، وبنما 1989). ولكن بعد سبتمبر، لم يعد الفصل بين الأوضاع الداخلية لأية دولة وسياستها الخارجية أمراً وارداً في المنظور الأميركي، الذي أصبح أسير المنظور المحافظ الجديد الذي لا يفرق بين المصلحة وسيادة القيم الأميركية في الدول المتحالفة مع الولايات المتحدة، وهي القيم التي اختزلها هذا اليمين إلى قيم محددة مأخوذة من العهد الجديد للكتاب المقدس، ووفق تفسير معين لمثل تلك النصوص، وهو بالضبط ما يفعله الأصوليون على الجانب الآخر، أي في المنطقة الإسلامية، أو منطقة الشرق الأوسط الكبير تحديداً. وربما لو أردنا تلخيص الفرق بين أميركا ما قبل سبتمبر وأميركا ما بعد سبتمبر، لما وجدنا أفضل من مقولة وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد، حيث يقول: «إن المهمة هي التي تحدد الحلفاء، وليس الحلفاء هم من يحددون المهمة»، بكل ما تحمله هذه العبارة من مضامين أصولية مسكوت عنها. بل وربما عدنا بجذور هذه المقولة ـ السياسة إلى أميركا ما بعد سقوط الكتلة الشرقية. فلقد كانت أميركا وحلفاؤها، بغض النظر عن أوضاعهم الداخلية، يحددون مهمة التحالف، أما اليوم فإن المهمة، تغيير العالم وفق نموذج معين، هي من يحدد الحليف، وإن لم يكن هناك حليف، فلا يهم، فأميركا قادرة بذاتها وبشكل منفرد على فعل ما تريد، وهذا هو ما حدث في المسألة العراقية مثلاً، وانحسار دور الأمم المتحدة في العهد الأميركي الجديد، أو لنقل الباكس أميركانا.

كان واضحاً منذ سقوط الكتلة الشرقية أن أميركا سوف تسعى لجعل العالم «عالماً جديداً»، أي عالماً أميركياً، وتسارع ذلك المنحى بعد سبتمبر كما سبق أن قيل. ولكن المشكلة أن الكثير دول منطقة الشرق الأوسط، والعربية منها على وجه التحديد، لم تدرك هذا المنحى الجديد في السياسة الخارجية الأميركية، أو أنها تجاهلته، واستمرت في التعامل مع الولايات المتحدة وفق المنطق القديم، أي منطق الحرب الباردة المنهار مع انهيار الاتحاد السوفياتي وبرجي التجارة في نيويورك لاحقاً. ولكن السياسة لا تعرف الثبات، وهذا ما أغفله أو تجاهله كثير من الساسة في المنطقة، وعليهم أن يعيدوا حساباتهم في مثل هذه المسألة. فإذا كانت مسؤولية الولايات المتحدة، بصفتها القوة الوحيدة في عالم اليوم، أن لا تفرض سياساتها ورؤاها بقوة البندقية، لأن ذلك قد يؤدي إلى ردة فعل لا تخدم الهدف المنشود، فإن على بقية دول العالم، ودول منطقة الشرق الأوسط تحديداً، مسؤولية أن تعيد حساباتها من جديد بما يخدم شعوبها ومجتمعاتها وإنسانها واستقرار أنظمتها السياسية، وأن لا تصبح نشازاً في عالم يكاد يكون واحداً، إن لم يكن قد أصبح بعد. بذلك فقط يمكن تجنب النتائج الكارثية لسياسات الأصوليين على الجانبين. وبذلك فقط يمكن أن نسهم في بناء عالم تسوده كل القيم التي أرادها الله لخلقه جميعاً.