مشروع (طوباوي) غير عقلاني وغير واقعي

TT

«وبدلاً من التعرف على المناطق الطبيعية، والتجمعات البشرية: أقامت اليوتوبيا (التخيل الوهمي!)، بواسطة خطوط المسّاحين، مملكة معينة، وجعلت سكان الأقاليم أعضاء في دولة واحدة، يفترض أن لها الأسبقية ولها السلطة الأعلى على كل المجموعات الأخرى.. والتناقضات الكامنة في معظم اليوتوبيات ترجع لهذا الأسلوب التسلطي، فقد زعم مؤسسو اليوتوبيات أنهم منحوا الحرية للشعب، غير أن هؤلاء المؤسسين تشبثوا بان يبقوا أسيادا في دولتهم المتخيلة، فبينما يزعمون أنهم يمنحون الحرية للشعوب، تجدهم في نفس الوقت يصدرون مجموعة من القوانين التي يتعين اتباعها بصرامة.. وكما قال توماس مور (دائماً كنت أتصور نفسي في دور الحاكم الأعلى ليوتوبيا بل إنني تخيلت نفسي اختال في مشيتي وفوق رأسي تاج من سيقان الذرة، لابساً عباءة راهب فرانسكاني، وحاملاً في يدي سنبلة من الشعير أشبه بصولجان، ومحفوفاً بحشد كبير من أبناء الشعب)... أما عصرنا هذا فهو عصر التسويات والتوازنات والحلول المعتدلة الواقعية، والسعي المشترك لجعل العالم اقل شروراً».. كتاب «المدينة الفاضلة عبر التاريخ» لماريا لويزا برنيري.

هذا مدخل مناسب للمقال الثالث عن (مشروع الشرق الأوسط الكبير).. ويتمثل التناسب في أن هذا المشروع غير عقلاني، وغير واقعي: توهم الشرق الأوسط أو العالم العربي الإسلامي (فراغاً) مطلقا ينبغي أن يملآ بمضامين المشروع وعبواته، كما توهم أن شعوب العالم العربي الإسلامي قد برح بها الشوق حتى غدت جد متلهفة على هذا المشروع: تفتح قلبها وروحها وعقلها له بمجرد إعلانه.

ومن شاء أن يستوثق من خيالية المشروع أو من (طوباويته)، فلينظم ـ في منطقة الشعوب العربية الإسلامية التي شملها المشروع ـ: استفتاء شعبياً موسعاً: حراً ونزيهاً.. ثم لينظر بعقل ووعي وضمير في نتائج الاستفتاء.. فهي نتائج لن يكون في صالح المشروع في ظل حقائق وموضوعية، من (الطوباوية): تجاهلها أو تجاوزها أو إنكارها:

أ ـ حقيقة الصورة الشائهة جداً لأصحاب المشروع لدى الرأي العام العربي الإسلامي.

ب ـ وحقيقة الوعي العام بان الأجندة الأمريكية مختلطة، بل معجونة عجنا بالأجندة الصهيونية.. ولدى العرب والمسلمين (نفور) عميق وهائل ودائم من كل شيء ذي صلة بالصهيونية، وبمشروعاتها العدوانية والاستعلائية في المنطقة.

ج ـ وحقيقة الصحوة السياسية الكبرى التي يعيشها العالم الآن ـ وهي صحوة تحدث عنها كثيراً: زبغنيو بريجنسكي ـ وهذه الصحوة تنتظم العالم الإسلامي ايضاًَ.. ومن خصائص هذه الصحوة السياسية: الوعي المتنامي دوماً بضرورة رفض (الجور العالمي) ورفض الهيمنات الثقافية والاقتصادية والسياسية والحضارية. في ظل هذه الحقائق ـ ومثلها معها ـ : لن تكون نتائج الاستفتاء الشعبي الحر النزيه ـ في العالم العربي الإسلامي ـ في صالح مشروع الشرق الأوسط الكبير.

ومن هنا أمكن التقرير ـ بموضوعية وعقلانية وواقعية وهدوء ـ «أن هذا المشروع وهمي غير عقلاني، وخيالي غير واقعي».

وهناك (موانع) أخرى كثيرة: تمنع تقبل هذا المشروع العجيب الغريب!!

ضد القانون الدولي

من هذه الموانع: أن مشروع الشرق الأوسط الكبير صيغ في غيبة الإحساس والوعي بـ(القانون الدولي).. وهذه تهمة ألطف من تهمة تعمد (المروق) من القانون الدولي.

بعد فوضى الغاب التي سادت العلاقات الدولية: توصلت البشرية إلى قانون ينظم هذه العلاقات ويحكمها ويتسامى بها.. وبديه: أن القانون الدولي: استند إلى منظومة من المفاهيم والحقوق انعقد الاجماع الدولي عليها.. وفي طليعة هذه المفاهيم (مفهوم السيادة الوطنية)، وهو مفهوم استندت حرب تحرير الكويت ـ مثلاً الى أصوله ومقاصده، إذ أن النظام العراقي الساقط قد انتهك (سيادة) الكويت الوطنية.. ومن مضامين مفهوم السيادة الوطنية الأساسية: أن لكل دولة الحق المطلق في السيادة على أرضها.. وحق النظام الاجتماعي والسياسي الذي تريد وتختار أن يسود إقليمها.. وحق أن تتساوى مع الدول الأخرى ـ ذات السيادة ـ في إقرار الآخرين لها بهذه السيادة، وبشخصيتها الدولية الكاملة الأهلية.. ومن اجل هذه السيادة كافحت الأمم والشعوب، ومن اجل التمتع بهذه الحقوق استقلت الشعوب والدول، ولصيانة هذه السيادة من انتهاك واختراق: كانت الحدود الإقليمية ـ برا وبحرا وجوا ـ لكل دولة وكان حق الدفاع، وحق الأمن، وحق التعاقد والتعاهد وأهليته.

من هنا فان مشروع الشرق الأوسط الكبير يعد اهداراً ـ نظرياً وتطبيقياً ـ لهذه السيادة، فهو ـ من ثم ـ مشروع انبنى على مفهوم خاطئ.. مفهوم خاطئ لأنه تقويض لأسس القانون الدولي الذي جعل (السيادة الوطنية) من مقوماته ومسلماته وثوابته.. نقرأ في ميثاق الأمم المتحدة:

أ ـ «العلاقات بين أعضاء الهيئة يجب أن تقوم على احترام مبدأ المساواة والسيادة».. المادة 78 ..

ب ـ «انماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبان يكون لكل منها تقرير مصيرها».. المادة 1..

ج ـ «ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما»... المادة 2. ولقد فسّر مؤتمر (سان فرانسيسكو) الدولي: السيادة الوطنية بأنها «المساواة بين الدول من الناحية القانونية، بمعنى أن تتساوى أصواتها قانوناً.. وان تتمتع الدول بالحقوق الكاملة في السيادة التامة في النطاق الخارجي، وفي النطاق الداخلي.. وان تحترم شخصية الدول وسلامة أقاليمها واستقلالها السياسي»... على مستوى آخر: قررت محكمة العدل الدولية «أن السيادة الوطنية أساس جوهري في العلاقات الدولية، فقالت ـ بالنص: «ان احترام السيادة الإقليمية يعد اساساً جوهرياً من أسس العلاقات الدولية».

ثم أن مشروع الشرق الأوسط الكبير: قام على فكرة (إلغاء المدنيات) والتشريعات الأخرى، وهي فكرة تتناقض وتتصادم مع نظام محكمة العدل الدولية، وهو نظام وضعته الأمم المتحدة، فالمادة 9 من هذا النظام تنص على انه «ينبغي للهيئة في جملتها: أن يكفل تأليفها تمثيل المدنيات الكبرى، والنظم القانونية الرئيسية في العالم».. وهذا نص صريح وقاطع في أن الشرعية الدولية ترفض سيادة مدنية واحدة (كالمدنية الأمريكية) على العالم كله، ومنه العالم العربي الإسلامي.

تضم إلى ذلك: خطيئة أخرى، بني المشروع عليها، وهي خطيئة السير في (طريق بريجنيف) ـ الزعيم السوفيتي السابق ـ ففي عام 1968 سحقت دبابات بريجنيف تشيكوسلوفاكيا، ولم يكن التدخل المسلح الدامي مصاباً بالبكم، بل كان ناطقاً متفلسفاً، فقد سوغ بريجنيف انتهاكه لسيادة ذلك البلد بمبدأ سمي ـ مبدأ بريجنيف ـ وهو مبدأ (السيادة المحدودة)، أي أن سيادة الدول محدودة ومنتقصة بحكم ارتباطها بالاستراتيجية العليا للاشتراكية، وبالمبادئ الماركسية اللينينية، وبالافكار (الأممية)، وبالتقدم والحرية (الحقيقة)!!

من نقلد؟

من موانع تقبل المشروع: أن النموذج الذي يراد إملاؤه وفرضه ليس مغرياً ولا جذاباً ولا مفيداً في كثير من جوانبه ومفاهيمه وتطبيقاته.

ان الاستفادة مما عند الآخرين تتراوح ـ في المنهج ـ بين الإباحة والوجوب ـ بحسب جدواها والحاجة إليها ـ والمعنى: أن رفض التقليد لا يتضمن رفض الاستفادة، لأنهما امران مختلفان، ولا ينبغي الخلط بينهما.. فالتقليد (إلغاء) للعقل، بينما الاستفادة (إعمال) للعقل.. ان تقليد المسلمين بعضهم بعضا: موقف مذموم، ذلك أن الاسترسال مع التقليد: تعطيل للعقل، ومجافاة للدليل، وركون معيب ـ جد معيب ـ إلى سعي الآخرين وجهدهم، وحرمان من لذة التأمل والتفكير والنظر والاختيار الحر.. قال ابن عبد البر ـ من أئمة المالكية ـ «لا خلاف بين أئمة أهل الأعصار في فساد التقليد».. وإذا كان التقليد غير محمود ـ فيما بين المسلمين أنفسهم ـ فهل يكون محمودا: أن يقلد المسلمون الأمريكان تقليداً أعمى: لا عقل فيه، ولا حرية اختيار، ولا منطق مصلحة؟

ولنفترض ـ جدلاً ـ أن التقليد: موقف جائز، وسلوك مستنير وخلق كريم ومروءة عالية راقية!!

فمن نقلد؟

هل صحيح: أن النموذج الأمريكي هو: المقياس المعتمد ـ كونيا ـ للصواب والرقي والسعادة؟ تعالوا نستصحب العقل والضمير، وننظر في هذه الشهادات والصور والمشاهد والحقائق:

1 ـ أذاع الرئيسان الأمريكيان السابقان (فورد وكارتر) بياناً سياسياً أعلنا فيه: «إننا نرى أن الوقت قد حان لاستعادة ثقة الأمريكيين بديمقراطيتهم وفي حكومتهم وفي المؤسسات المنتخبة من جماهير الشعب.. واستعادة الثقة تكون ابتداء بإصلاح ( نظام تمويل الحملات الانتخابية) الذي خرج عن السيطرة في الولايات المتحدة».

2 ـ أثبتت دراسة علمية أمريكية (نفور) الرأي العام الأمريكي والناخبين بوجه عام، من الحزبين: الجمهوري والديمقراطي، ففي الثمانينات كان 15 في المائة من هؤلاء يظهر ميلاً استقلالياً عن الحزبين، وقد ارتفعت هذه النسبة بعد ذلك لتصل إلى نحو 40 في المائة.

3 ـ على المستوى الاجتماعي والأخلاقي والأمني: ثمة أكثر من أربعة ملايين مراهق مدمنين على القمار، وينفق كل عام أكثر من 50 مليار دولار على علاج هؤلاء، وان 9 في المائة من الأطفال فحسب يلقون رعاية جيدة على المستوى العائلي... وأن الأسر تتفتت وتنهار بسبب الإهمال والعنف والمخدرات والإباحية.. يقول وزير خارجية أمريكا الأسبق (جيمس بيكر).. «لقد بدأت أمريكا تجربتها المشؤومة في الإباحية الاجتماعية قبل 30 عاماً، وقد يتطلب نقض هذه العملية ثلاثة عقود أخرى، ومع ذلك فان شيئاً واحداً يؤكد إننا أخفقنا في هذه المحاولة وهو: الانسحاب العام من المناخ الاجتماعي».

فمن نقلد ـ والحالة هذه ـ؟ ولماذا يصر أناس على شعار (لنسقط متحدين)؟

ان من الرشد (والبراجماتية): التحرر من أغلال (احتكار الصواب الحضاري).. وانه لمن العقلانية والواقعية والتعددية العالمية: تبادل المصالح بلا حدود، مع بقاء كلّ على خياره الحضاري والدعوة إليه باللطف والرقي، من دون تجبر أو سيطرة: «وإنا أوإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين».