فتح تواجه أزماتها وتبحث عن مخارج آمنة (2 من 2)

TT

نحتاج إلى قدرات استثنائية، كي نلخص أزمات فتح، او على اقل تقدير كي نتوصل الى منهج في تفسير دوافعها وتداعياتها، وانت تحاول، تجد نفسك امام ظاهرة ان اي ازمة كبرى في فتح تنتهي الى الاندماج في ازمة اخرى.. حتى اضحت الازمات الداخلية هي العلامة الفارقة (وبتميز البصمة) عن ازمات الآخرين. سواء كانوا دولا او احزابا او حركات تحرير.. او مجمع قبائل يطلق عليه اسم ارقى. وفي مسألة فتح، فإن تشخيص الازمات، هو المهنة الدائمة لكل كوادرها والمجتهدين في قيادتها على كل المستويات، اما الحلول.. فبالإمكان اقتراح الكثير منها، ولكن اين تظهر صعوبة التطبيق؟. هذا هو احد الاسئلة الدائمة التي تحتاج الى اجابات عملية بعيدة، قدر الإمكان، عن التنظير للمخارج المستحيلة او السطحية. وبين المستحيل والسطحي هنالك الممكن.. وأراه على النحو التالي: تميزت فتح بجرأة التوجه السياسي بذات القدر من جرأة اتخاذ القرار القتالي، في زمن كانت فيه الطلقة في الشرق الاوسط مسَّا بمحرمين كبيرين.. أمن اسرائيل وأمن مصادر النفط.. ولقد وضع هذا التشخيص لمعضلة فتح، والثورة الفلسطينية، الجنرال جياب عندما قال لياسر عرفات، ان وضعك هناك، اصعب من وضعي هنا.. فورائي اتفاق صيني ـ سوفياتي قادر على الدعم، ومعي نصف فيتنام.. اما انت.. فليس وراءك ما ورائي.. وليس معك.. نصف فلسطين.. غير ان فتح شقت طريقها بقدر قليل من المجازفة وكثير من الحسابات. فوجدت متنفسها ومقومات حياتها في مخزون عدالة لا ينضب لقضيتها، وتعاطف شعبي عربي غير مسبوق. بحكم ملء الفراغ المعنوي الناجم عن هزيمة حزيران.. وديبلوماسية متفردة، تميزت في امطار الملوك بالقبلات.. وإجراء الاتصالات مع اقطاب الكرملين.. والتفتيش عن قنوات اتصال مع الأميركيين والاسرائيليين وغيرهم ممن ينتمون الى المعسكر الآخر. ولقد شقت فتح طريقها كذلك، بالوضوح والتصميم, وإيجاد الاجوبة المقنعة عن الاسئلة المحيرة.. كانت تفسر هذا الخليط المتنافر من السلوك بمتطلبات القضية العادلة.. وبمنطق شرعية طرق كل الابواب لخدمة الهدف. غير ان خللا ما حدث على ارض الوطن. ولعل مرد هذا الخلل هو ثقل وعمق التحول الكبير في مجالات متعددة: ـ تحول منطق وأسلوب وآليات حركة التحرر التي تسمي نفسها «بالثورة»، الى منطق وأسلوب وآليات بناء مقدمات دولة على ارض غامضة وآفاق اشد غموضا.

ـ تحول من ثقافة بنيت على المقاومة الشاملة، الى سلوك مغاير تماما، يقوم على اساس المهادنة والتفاوض وتنفيذ الالتزامات الصعبة. ـ تحول في الادارة، من معالجة شؤون منتسبي منظمة التحرير والفصائل، الى معالجة هموم ملايين الفلسطينيين على ارضهم، وفي بيئة لا يصح تحولها كلها الى واقع الثورة.. ومتطلباتها الادارية. وفي سياق هذه التحولات، التي تحتاج الى مساحة زمنية طويلة كي تنضج وتستقر وتتجذر في السلوك الجماعي للافراد والمؤسسات، ظهرت علاقة جدلية بين الافق السياسي ودرجة انفتاحه وقوة او ضعف الاداء الداخلي، على قاعدة منطقية تماما، وهي ان اي انفتاح جدي في الافق السياسي سيفرز حالة شعبية قادرة على تجاوز سلبيات الوضع الداخلي، رهانا على حل كبير مقبل للمعضلة الكيانية. والعكس بالعكس، فكلما ضاق الافق السياسي ضاقت روح المواطن ذرعا بكل ادبيات السلام، لمصلحة ذلك الحنين لمرحلة الثورة والمقاومة او الصمت. لقد حسم الامر بعد كامب دافيد مباشرة، اذ كان الاستقبال الشعبي لما حدث على قمة العالم، هو ذروة القرائن الكبيرة، ليس فقط على تعثر مسيرة السلام، وانما على فكرة امكانية اقامة سلام بعد ما حصل لرابين، ثم ما حصل مع نتنياهو، وأخيرا باراك.. ولكل واحد من الثلاثة منهجه ووعوده وطريقته في العمل. محترفوا السياسة قد يتفهمون التداعيات المعقدة للاحداث والاتجاهات، غير ان المواطن الغارق في همومه، يفهم الامور على نحو اكثر بساطة وبلاغة. فما ان وضعت كامب دافيد اوزارها حتى تهيأ المناخ النفسي للبديل.. تحت عنوان: اذا كان ثلاثة او اربعة رؤساء وزارات في اسرائيل، مع رئيس قوي في الولايات المتحدة، لم يحققوا شيئا.. اذن.. فمن يريد الثورة فليبدأ من جديد، ومن يريد مواصلة بقية الحل والمفاوضات فليحاول. ومن لا يثق بهذا وذاك فليصمت. في هذا المناخ.. نحتاج مثلما كنا في البدايات، الى قليل من المجازفات وكثير من الحسابات. الا ان الذي حدث معنا هو العكس، فأكثرنا من المجازفات معتمدين على قوة الدوافع، واغفلنا الحسابات هاربين مسبقا من النتائج!. ان من اقدار فتح، ان تصب في بحيرتها كل الانهار الفلسطينية، وان تختلط كل المياه، لتشكل مخزون القوة لها ولما تمثل كذلك لسلوكها السياسي العملي والمحسوب. غير ان الاختلاط هذه المرة افرز نتائج من نوع جديد. ـ فعلى لوحة القتال: ظهرت فتح في المرتبة الثانية بعد الفصائل الحاسمة امرها اساسا بهذا الاتجاه، فإن جرى الحديث عن مزايا القتال.. فالمآثر لحماس والجهاد الاسلامي. ـ وعلى لوحة السياسة والتفاوض: ظهرت فتح كما لو أنها جالسة على مقاعد انتظار قطار ما، تارة يحمل اسم رؤية بوش، وتارة اخرى خريطة الطريق، وتارة ثالثة سياسة شارون احادية الجانب. وفي حالة كهذه، فإن كلمة لا، لا تنفع الى حد ما، ولكنها لا توفر نفوذا يكفي للمشاركة في قيادة القطار وتحديد مواقفه المقبلة ومحطته الاخيرة.

كل فتح، تعترف بهذه الخلاصة، ولكنها ما تزال بعيدة عن الاعتراف بحتمية اتخاذ القرارات الصعبة التي تخرجها من الاشكالية الراهنة، وتعيدها الى موقعها الاصلي والطبيعي قي قيادة العمل الوطني. ان اخطر ما يضر القوى السياسية الكبرى ذات الملامح المختلطة، واعني بها ملامح الدولة مع بقايا ملامح حركة التحرر، هو التردد في الخيارات، والمراوحة بين الشيء ونقيضه، وممارسة تكتيكات الثورة في زمن بناء الدولة، واجراء الحسابات بفعل الدوافع من دون التدقيق بالنتائج، والتعامي عن التطورات المحيطة التي قد تصل بسرعة ايقاعها وقسوة شروطها حدود جعل اي مبادرة قتالية او سياسية، ذات مردود ضعيف او تتحول الى العكس. ـ ان فتح بحاجة هذه المرة الى مبادرة سياسية واضحة المضمون واللغة والوسائل والأهداف. مبادرة ترضي بها العالم بعد ان دفع الفلسطيني ضريبة البطولة والعزة، وآن له ان يقبض الثمن والثمنُ يأتي بالسياسة. ـ ان فتح بحاجة الى اثبات جدارتها بتحقيق ما تعلن وما تعد به، وهذا يتطلب حسما قطعيا للصراع الداخلي بتعبيراته الراهنة، والانتقال الى الصراع الداخلي الطبيعي الايجابي تحت سقف المؤسسات التي ما تزال تحظى بالشرعية، رغم افراغها عشرات المرات من الفاعلية الدائمة. ـ ان فتح بحاجة الى مؤتمرات مناطقية وعامة. وبحاجة اكثر الى الكف عن استخدام التبرير الجاهز لإسقاط هذه المؤتمرات من حياتنا، وهو «الظروف القاهرة». ـ ان فتح بحاجة الى لجنة مركزية جديدة يفرزها الانتخاب والتجدد، ولجنة مركزية تقود وفق نظام داخلي ولا تتهاون في صلاحياتها ولا تتخذ من اللقب مجرد تعزيز للنفوذ في اماكن اخرى. ـ ان فتح بحاجة الى مؤسسات تنظيمية فعالة. وبحاجة اكثر الى منابر فكرية واجتهادية متعددة تنهي حالة الجمود وتتفاعل بطريقة ديمقراطية داخل مؤسساتها المركزية. ـ ان فتح بحاجة الى تفاهم اعمق وأكثر جدية مع الفصائل الاخرى، بعيدا عن وسائل التنافس الساذج والتورية عليهم ومحاولة استقطاب بعضهم لعلهم يساعدون على الحسم الداخلي عندنا بينما نجد انفسنا مستقطبين وراءهم اخيرا. ان باستطاعة فتح ان تفعل ذلك. اي ان باستطاعتها فعلا اعادة مكانتها ونفوذها التقليدي. اما اذا وجد عندنا من يرى هذا مستحيلا، فذلك يعني ان بداخلنا من اصبح مسلما بالعجز امام رؤية فتح وهي تنحدر درجات الى اسفل.

هذا يجب ان يكون من غير المسموح به فكريا وسياسيا ووطنيا. ففتح هي تنظيمنا جميعا.

وهي سبيلنا لممارسة وطنيتنا والسعي نحو اهدافنا، في اطار مؤسساتنا الوطنية الاوسع: ـ السلطة، المنظمة. وهي خيارنا الاخير، الذي يجب ان يكون خيار المستقبل، اذ لا مناص من التجدد، أي لا مناص من اكتشاف الفرق بين بلاطة القبر وبوابة الانطلاق نحو آفاق الحياة الرحبة.

* وزير الاعلام الفلسطيني السابق