أمسيتان مع مجتهد

TT

اتحاشى عندما اكون في بيروت، امرين، توقيع الكتب والمحاضرات. فلو شئت ان احضر ما اتمنى، لما بقي لدي وقت لشيء. لم استطع ان امنع نفسي الاسبوع الماضي من حضور الحوار السياسي بين غسان تويني وادونيس. وهذا الاسبوع في دبي ذهبت بلهفة الى امسية محمود درويش وادونيس. اذن، ادونيس مرتان خلال ايام قليلة. يا له من كسب. وعلى الطائرة الى دبي امضيت ثلاث ساعات وانا اقرأ مسرحية «سهرة الامثال» بترجمة ادونيس، وكتابه «الشعرية العربية». واريد من ذلك القول ان النظر الى ادونيس كشاعر لا يعطيه حقه. لا عند الذين يكبرون شعره، ولا عند الذين يرونه غامضا. ذلك ان ادونيس، خلافا لمعظم الشعراء المحدثين، هو كاتب مكد ومفكر مجتهد وبحاثة لا يتعب. وهذا المنحى من شخصه وسيرته، تهاون نزار عن الذهاب اليه ولم يدخله محمود درويش في محاولاته. لقد اعطيا، هما ومعظم الشعراء، القصيدة كل شيء ولم يجربا الدراسة في الادب والفكر والسياسة. وربما يعود ذلك الى تكوين ادونيس كأستاذ جامعي، لكن الارجح هو تكوينه الذاتي وشغفه المطلق بالبحث والسيرة وجماليات اللغة العربية.

المختلفون مع ادونيس كثيرون. ولكن الرجل يستحق اعادة دراسة شاملة من الفريقين. فجميع الكتب التي صدرت عنه او الاطروحات الجامعية التي وضعت عنه او فرقة الطبالين التي تريد ان تفزع لجنة نوبل كلما طرح اسمه، الجميع يغفلون الارث الادبي والنقدي الذي وضعه ادونيس. وخصوصا الارث اللغوي. ومع انه لم يدع مرة هذه المكانة ولا زعم زعما، يجب الا ننسى انه احد حراس اللغة وفرسانها. وقد انضم ادونيس حقا الى قصيدة النثر وكان رائدا من رواد الشعر الحديث ومن حركة «شعر»، لكنه فعل ذلك من موقع القوي المتبحر في اللغة وليس من مواقع الضعفاء الذين ناطحوها ونأوا عنها. وانزووا الى سهولة الذر. ان قيمة ادونيس كأحد اعمدة النثر لا تقل ابدا عن مكانته كشاعر. ويندر ان نرى اديبا مثله امضى العمر يتعلم ولا يدعي التعليم. ولا نزال نراه ينتقل من منحة جامعية الى اخرى ومن عاصمة الى اخرى، كأنه لم يتجاوز السبعين. لم يسكن ادونيس برجه الشعري ويرفض النزول منه. ولم يتطلع الى الاشياء من خارجها بل من قلبها. ولم يدّع ريادة او قيادة. ولم يخرج مرة من ذلك الثوب المتواضع الذي عرفته فيه قبل اربعة عقود. وبعد محاضرته في بيروت وقف احد منتقديه يهاجمه ويخاطبه بذلك الاسلوب الذي يليق بالذين يعلقون على المحاضرات، لا بالذين يضعونها. وامسك ادونيس بالاوراق التي قرأها وقال للرجل: هذه افكاري اتخلى عنها وأضعها بين يديك اذا ما انت اقنعتني. اما انا فمن الواضح انني لم استطع ان اقنعك في شيء. ولم يكن هذا هدفي في اي حال. فأنا مجرد كاتب اقرأ افكاري للناس واصغي الى افكار الآخرين لعلها تغير في سذاجة افكاري.