المناورة الأخيرة: فك الارتباط مع الفلسطينيين

TT

الأيام الثلاثة التي شهدتها مدينة لاهاي الهولندية، حيث اجتمعت محكمة العدل الدولية للنظر في شرعية بناء الجدار الإسرائيلي العازل، حولت مسألة الخلاف على الجدار، من مسألة خلاف فلسطيني ـ إسرائيلي إلى مسألة خلاف دولي مع إسرائيل، وهو خلاف يبدأ سياسيا وينتهي أخلاقيا. وكسب الفلسطينيون من هذه المعركة كسبا كبيرا، فهم يناطحون احتلالا، وهو أيضا احتلال يريد السيطرة على مزيد من الأرض، وهو أيضا وأيضا يسعى لهذه الاستزادة بواسطة جدار يمثل لدى العالم كله رمزا موازيا لجدار برلين الذي كان سقوطه حدثا تاريخيا.

وإذا نظرنا إلى المسألة من زاوية المرافعات التي ألقيت أمام المحكمة، فقد كانت كلها مرافعات اتهام وإدانة لإسرائيل، ولم تكن هناك سوى مرافعة واحدة مؤيدة لإسرائيل قدمها مندوب تلك الجزيرة القابعة في المحيط الأطلسي والتي لا يسمع بها أحد إلا حين تصوت إلى جانب إسرائيل ضد العالم كله، حتى ليمكن القول إن جلسات الاستماع الأولى في محكمة لاهاي كانت بمثابة محاكمة عالمية لإسرائيل، محاكمة تفوح منها رائحة الإدانة المطلقة.

هذا الوضع الذي تجد إسرائيل نفسها فيه، بعد سنوات طويلة أمضتها وهي تنهل من منابع التأييد الغربي لها، يكشف عن وضعية جديدة لم تعتد عليها إسرائيل من قبل. ولا يعود ذلك إلى نمو اللاسامية في اوروبا كما تحب إسرائيل أن تقول، ولكنه ينبع من سياستها العدوانية ضد الشعب الفلسطيني، ومن العذابات الكبيرة التي يوقعها الاحتلال بالشعب الفلسطيني صباح كل يوم، بينما تتولى شبكات التلفزيون نقل وقائع ذلك إلى العالم كله. لقد أصبحت إسرائيل في نظر العالم دولة محتلة، ودولة ظالمة وقاسية، ودولة تمييز عنصري، ودولة تحارب أشجار الزيتون، ودولة تهدم بيوت الناس على أصحابها. أصبحت إسرائيل دولة حواجز، يتلذذ جنودها بتعذيب الناس، وأصبحت في آخر منظر لها دولة عصابات تهاجم البنوك وتستولي على أموالها.

ويمكن القول حسب هذه الصورة التي أطلقتها محكمة لاهاي إلى العالم،إن حكومة شارون قد خسرت معركتها الإعلامية، بعد أن كانت قد خسرت من قبل معركتها الأمنية، فلم تستطع رغم كل عنفها وشراستها أن تجلب الأمن للإسرائيليين، وزادت فوق ذلك كله كراهية العالم لسياسة إسرائيل.

وهذه الصورة التي نعرضها ليست مجرد صورة وصفية، ولا نعرضها لأهداف معنوية أو أخلاقية فقط، ذلك أن لها بعدها السياسي والكبير. فبسبب هذه الصورة، وبسبب هذا الفشل، أعلن شارون بناء جداره، وأعلن مشروعه لفك الارتباط مع الفلسطينيين من جانب واحد، وأعلن عزمه التخلي عن 17 مستوطنة في قطاع غزة، فما الذي يريده شارون من كل هذا؟

عندما أنجز مناحيم بيغن تسويته السياسية مع مصر، قال صراحة إنه نفذ ما هو متوجب عليه من القرار 242، فهو يعيد سيناء إلى مصر، ويحتفظ بما تبقى (الضفة الغربية وغزة) باعتبارها الحدود الآمنة التي ورد ذكرها في القرار. ولكن هذا الحلم السياسي ما لبث أن تلاشى، وربما يكون بيغن قد أدرك بينه وبين نفسه خواء حلمه السياسي هذا، فأصيب بالاكتئاب، وقضى أيامه الأخيرة جالسا خلف نافذة بيته يحدق في مستشفى للمجانين في مستوطنة أقيمت فوق بلدة دير ياسين التي ارتكب فيها مجزرته الشهيرة عام 1948، وظل يحدق بذلك المستشفى حتى مات.

وما يواجهه شارون الآن هو محاولة تكرار ما فعله بيغن، إنما داخل حيز جغرافي أصغر، فهو يتحدث عن التخلي عن غزة مقابل الاحتفاظ بــ 58% من الضفة الغربية، ويريد إنجاز ذلك بحل أحادي الجانب، من دون مفاوضات ومن دون اتفاقات. فهل سينجح هذا الحلم؟ أم أنه سيفشل ويصيب صاحبه بالاكتئاب ليقضي حياته جالسا يحدق في خيالات مجزرة من مجازره الكثيرة؟

الفلسطينيون... وهم الطرف الذي يريد شارون أن يتجاهله، سيكونون مسرورين من أي انسحاب إسرائيلي. أولا لأنه انسحاب. وثانيا لأنه انسحاب من دون أي اتفاق. وثالثا لأنه انسحاب لا يتضمن إقرارا فلسطينيا بانتهاء النزاعات والمطالبات. إن الفلسطينيين سيأخذون جزءا من أرضهم التي احتلت عام 1967، وسيطالبون بالطبع بجلاء الاحتلال عما تبقى من الأرض. وهنا سيكون العالم كله معهم، وإذا لم يواصل شارون انسحابه فسيكون من حق الفلسطينيين الشرعي أن يقاوموا الاحتلال، فتتجدد بذلك أزمة إسرائيل الأمنية التي يظن شارون الآن أنه وجد حلا سحريا لها من خلال جداره العازل، ومن خلال مشروعه لفك الارتباط.

يعرف شارون هذه الاحتمالات بالطبع، ولذلك فإنه يركز أنظاره على كسب تأييد الرئيس الأميركي جورج بوش لخطته كلها. إنه يحاول أن يغريه بفكرة الانسحاب من غزة ليأخذ منه موافقة أميركية على شرعية الاستيطان في الضفة الغربية والقدس، وبوجود غطاء أميركي تواصل إسرائيل إجراءاتها متحدية العالم كله. وفي نهاية شهر «آذار»مارس المقبل سيلتقي شارون مع بوش في البيت الأبيض ليعرض عليه الصفقة، وليقول له إن الانسحاب من غزة هو تطبيق لخريطة الطريق. وسيفعل شارون كل هذا محاولا ابتزاز الرئيس بسبب حساسية وضعه الانتخابي الذي يحتاج فيه إلى دعم اللوبي اليهودي.

لقد اعتادت الولايات المتحدة أن تؤيد إسرائيل ضد الفلسطينيين والعرب ظالمة أو مظلومة، ولكن الإدارة الأميركية لا تستطيع أن تقبل بسهولة فكرة انفراد طرف واحد بالحل، ومن دون مفاوضات. يتناقض هذا مع كل مواقفها السابقة. كما أن الحل من طرف واحد يهمش دور الولايات المتحدة السياسي، وبخاصة أنها احتكرت لنفسها هذا الدور، وقاومت بشدة ولا تزال، تدخل أي طرف دولي آخر حتى لو كان حليفا لها مثل أوروبا. كما أن بوش قد لا يحبذ أن يساير شارون في مغامرة سياسية جديدة، ليجد نفسه بعد أشهر، وعلى أبواب الانتخابات، في ظل معركة سياسية أو عسكرية حامية بين العرب واسرائيل. وهذه كلها ملاحظات قد تجعل مهمة شارون في واشنطن مهمة صعبة.

يضاف إلى ذلك أن ما يعرضه شارون على الفلسطينيين، باعتباره تنازلا سخيا للغاية، هو في نظر الفلسطينيين تنازل ناقص. فشارون يريد الإبقاء على ثلاث مستوطنات في قطاع غزة. وهو يريد الاحتفاظ بشريط جغرافي عريض عند مدينة رفح يعزل الأرض الفلسطينية عن مصر. وهو يريد الإبقاء على السيطرة الإسرائيلية على معبر رفح البري. وهو يريد استمرار السيطرة الاسرائيلية على ميناء غزة ومياهها الإقليمية. وهو لا يريد السماح بإعادة بناء مطار غزة. وبسبب هذه الأمور كلها سيعتبر الفلسطينيون أن الانسحاب الإسرائيلي من غزة هو انسحاب شكلي، وسيواصلون مقاومة البؤر الإسرائيلية داخل القطاع، الأمر الذي يعني استمرار التوتر. وهذا أيضا بند حساس آخر قد يدفع الرئيس الأميركي إلى الكف عن منح تأييده لخطة شارون المنفردة.

وخلاصة هذا كله، أن شارون يعيش مأزقا سياسيا. مأزق داخل إسرائيل وفي وسط جمهوره الذي يرفض التخلي عن مستوطنات غزة. ومأزق مع الفلسطينيين الذين سيطالبون بانسحاب فعلي وشامل. ومأزق آخر مقبل على الطريق مع الإدارة الأميركية. إن شارون يفكر بمغامرة كبيرة، ولكنها مغامرة مثل قالب الجبنة الفرنسية، مليء بثقوب كثيرة.