من تشرشل إلى بوش: هل نحن على أبواب شرق أوسط جديد؟

TT

الجغرافيا السياسية الحالية للشرق الأوسط، هي صناعة بريطانية فرنسية في المقام الأول، وهندسة بريطانية على وجه الخصوص. وإذا أردنا أن نتعمق أكثر، لوجدنا أن رجلاً واحداً كان هو العقل المفكر، أو لنقل مهندس منطقة الشرق الأوسط الحالية، ألا وهو ونستون تشرشل. فالحدود الحالية لمنطقة الشرق الأوسط، وخاصة الحدود السياسية لمنطقة الهلال الخصيب والجزيرة العربية، إنما هي هندسة بريطانية في الجزء الأكبر منها. فبعد انهيار الامبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، أصبحت «ممتلكات» هذه الامبراطورية إرثاً لقوى الحلفاء المنتصرة، وخاصة فرنسا وبريطانيا. وبين بريطانيا وفرنسا، كانت هندسة الشرق الأوسط تتحدد. بل وأكثر من ذلك، فإن كثيراً من الكيانات والأنظمة السياسية الحالية في المنطقة، البائد منها وما لم يبد، هو صناعة بريطانية بحتة. العراق الحديث هو «تجميع» بريطاني لثلاث ولايات عثمانية. الأردن وإسرائيل والحدود بين دول الجزيرة العربية والخليج، كل ذلك توجد فيه لبريطانيا، وونستون تشرشل خاصة، بصمة لا يمكن إنكارها أو تجاهلها. بصفة عامة، يمكن القول إن ونستون تشرشل هو العقل الاستراتيجي الأبرز في فترة ما بعد انهيار العالم القديم، عالم ما قبل الحرب العالمية الأولى، أو لنقل عالم ما قبل الحرب العالمية الثانية. أما بعد الحرب العالمية الثانية، فإن الدور البريطاني والفرنسي، أو دور القارة العجوز، قد أخذ في الانحسار لصالح القوتين الأعظم اللتين ظهرتا من بين الأنقاض: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، ولكن الهندسة الأوروبية للشرق الأوسط بقيت كما هي من دون تغيير.

فالولايات المتحدة من ناحية لم تكن استعمارية بالمعنى التقليدي، وكذلك وارث الامبراطورية الروسية، أي الاتحاد السوفيتي، لم يكن كذلك. كان الصراع بين الطرفين هو على مناطق النفوذ وليس الوجود الاستعماري، في ظل حرب باردة تصل في سخونتها بعض الأحيان إلى درجة عالية من الحرارة. مع سقوط «الامبراطورية السوفيتية»، وانتهاء الحرب الباردة، أصبح الهم الأميركي هو أمركة العالم عن طريق ما بشر به بوش الأب من نظام دولي جديد. وبالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط، الحيوية اقتصادياً واستراتيجيا، فإن الهدف أصبح تدعيم الوجود الأميركي في المنطقة، كوارث للنفوذ المطلق هذه المرة، لولا الشوكة العراقية. كانت أميركا مترددة في كيفية حل المشكلة العراقية، فتارة تكون سياسة الاحتواء، وتارة تكون سياسة الحصار، وتارة أخرى تكون الضربات العسكرية الخاطفة، ولكنها لم تفكر إطلاقاً في حرب شاملة ضد النظام في العراق، ولكن كل تلك الإجراءات لم تؤد إلى أي نتيجة. ولكن بعد أحداث سبتمبر، والهيمنة شبه المطلقة للمحافظين الجدد على صناعة القرار في واشنطن، انتهى التردد الأميركي تجاه العراق، وقبل ذلك طالبان في أفغانستان، وكان الهجوم على أفغانستان والعراق هو إعلان ولادة العهد الأميركي الجديد، القائم على التدخل العسكري المباشر وتغيير الأنظمة السياسية إن لزم الأمر، أو ما يسميه مستشارو الرئيس بوش «الحرب الوقائية».

وبذلك يمكن القول إن نتائج سقوط الامبراطورية السوفيتية لم تظهر بشكل واضح إلا بعد هجمات سبتمبر، حين بدأت الهيمنة الثقافية والاقتصادية للولايات المتحدة ترتدي قفازات من حديد ونار هذه المرة، ومن لا ينفع معه الاقتصاد ولا الثقافة، فإن الجندي هو البديل. هناك هوس اليوم في الإدارة الأميركية بأن أميركا مكلفة بانقاذ الإنسانية، وأن القيم الأميركية هي قيم الإنسان كافة. وقد أكد الرئيس جورج بوش هذه السياسة الجديدة ـ القديمة في خطابه في مكتبة الكونغرس، في الرابع من شهر فبراير، حيث يقول متذكراً تشرشل: «لقد أدرك تشرشل أن الحرب الباردة لم تكن تنافس جيوشا بقدر ما كانت صراع رؤى.. فصل واضح بين أولئك الذين يؤمنون بالايديولوجيات، وأولئك الذين يؤمنون بخيار الشعوب الحر»، ثم يتحدث عن الحرب ضد الإرهاب، وإنها اليوم تمثل ذات الشيء، أي صراعاً بين رؤيتين مختلفتين، حيث يقول: «وهذه الحرب هي أيضاً صراع بين الرؤى.. ونحن نقبل مسؤولية التاريخ.. إن الرسالة الموجهة للمنتظرين للحرية، والعاملين من أجل الإصلاح هي أنه بإمكانهم الثقة بأن لديهم حليفا قويا، حليفا ثابتا يتمثل في الولايات المتحدة الأميركية.. أميركا لن تهتم باللصوص والمغتالين، فسنقوم بكل ما يستلزمه الواجب، ولن نغادر قبل إتمام العمل».

هذا الخطاب كان تمهيداً لإعلان المبادرة الأميركية حول الشرق الأوسط الكبير، أو ما يمكن أن نسميه مشروع التغيير الشامل للشرق الأوسط، حتى لو كان ذلك التغيير يستلزم تغيير أنظمة سياسية أو تعديل حدود جغرافية، أو تفتيت كيانات وإنشاء كيانات أخرى. بمعنى آخر، فإن بوش وإدارته هنا يستلهمون ذات ما حدث في أعقاب الحرب العالمية الأولى تحديداً، وذات الشيء الذي فعلته بريطانيا وتشرشل تحديداً في منطقة الشرق الأوسط، بل ربما يكون الرئيس بوش يعتقد في نفسه أنه تشرشل القرن الحادي والعشرين. فمن خلال خطاب الرئيس في مكتبة الكونغرس، نستطيع أن نتبين هذه الحقيقة بشكل واضح، حيث يماهي بين رؤية وسياسة تشرشل في المنطقة، وبين السياسة الأميركية الحالية فيها، وكأن شيئاً لم يتغير منذ ذلك التاريخ. بل أنه يذهب أبعد من ذلك حين يشبه علاقته برئيس الوزراء البريطاني توني بلير، بالعلاقة التي كانت قائمة بين تشرشل وروزفلت، حيث يقول: «لقد وجد الرئيس روزفلت في تشرشل الثقة والتصميم الذي يساوي ما لديه.. وقد كتب الرئيس ذات مرة إلى رئيس الوزراء رسالة يقول فيها إنه من الممتع أن نكون في ذات العقد معك.. وإنه من المميز أن نعرف زعيماً بريطانياً عظيماً آخر.. ففي تصميمه على فعل ما هو حق لا ما هو سهل، فإنني أرى روح تشرشل في رئيس الوزراء توني بلير».

هذا التحول في السياسة الأميركية، أي في محاولة بناء امبراطورية أميركية ولو بالقوة، يثير تساؤلات حول المستقبل، سواء بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط، أو بالنسبة لمستقبل أميركا نفسها. فمن ناحية الشرق الأوسط، يمكن القول إن هذه المنطقة بالفعل تحتاج إلى تغيرات جذرية من أجل أن تتواءم مع عالم اليوم، وتنعم شعوبها بالأمن والاستقرار والرفاه والحرية، ولكن كل ذلك مهدد بأن يتحول إلى نقيضه فيما لو كانت سياسة العصا الغليظة هي الخيار. فسياسة العصا الغليظة ستؤدي في النهاية إلى سيطرة القوى المتطرفة على مقاليد الأمور في المنطقة، سواء بالحكم المباشر أو عن طريق زعزعة الاستقرار، مع ما في ذلك من تهديد لأمن واستقرار العالم كله. وبالنسبة للولايات المتحدة نفسها، فإن التحول إلى الخيار العسكري على امتداد العالم، يعني بداية النهاية للقوة الأميركية، أو لنقل انهيار الامبراطورية الأميركية. فقد يكون الخيار العسكري محدوداً أول الأمر، ولكنه يستشري بعد ذلك بوتيرة متصاعدة، وذلك كما السرطان تماماً. فللحفاظ على المكتسبات التي حُققت بواسطة العسكر، يجب بقاء العسكر، وهذا العامل هو من أهم العوامل التي أدت إلى انهيار الامبراطوريات العالمية عبر التاريخ، مثل الرومان والعثمانيين وبريطانيا وبقية دول الاستعمار القديم. التحول إلى امبراطورية عالمية هو قمة القوة بالنسبة لدولة ما، ولكنه بداية السقوط من ناحية أخرى، إذ لا شيء بعد القمة إلا الانحدار. والرئيس بوش وإدارته من اليمين الجديد، إنما يغامرون بأمن العالم وازدهار المجتمع الأميركي والقوة الأميركية، حين يمارسون سياسة القوة حول العالم. باستطاعة أميركا أن تحقق ما تريد من خلال جاذبية النموذج، ومن خلال العمل على صناعة عالم أفضل، ومن خلال ترك آليات العولمة المعاصرة تفعل فعلها، وليس من خلال سياسة القوة، التي وإن حققت بعض النتائج السريعة على المدى القصير، فإنها تنقلب إلى ضدها على المدى البعيد. فعالم اليوم المتداخل والمتشابك لا يحتاج إلى رجال مثل تشرشل وبقية دهاة الاستعمار والحرب الباردة، بقدر ما يحتاج إلى عمل جماعي يساعد الشعوب على مساعدة نفسها لا تأديبها أو فرض ما يراد منها بالقوة، حتى وإن كان المراد منها شيئاً جميلاً. ففي النهاية، فإن النفس تمج ما هو مفروض مهما بدا جميلا وجذابا.