نظام تجاري أميركي لا يخضع للقسود

TT

مرحبا بكم في القرن الحادي والعشرين. فالمشهد قد تغير بصورة واسعة وأصبح العالم يعيش في ظل اقتصاد عالمي يتسم بالمنافسة العالية، ويدفعه تقدم تكنولوجي هائل، فيما دخل مئات الملايين من الرجال والنساء على السواء قوة العمل العالمية التي يعتمد عليها هذا الاقتصاد.

وفي سوق العمل الحالية المليئة بالقوة والنشاط وغير المستقرة على حال ايضا، لم يعد هناك الكثير ممن يهتمون بمصالح العمال الاميركيين، اذ ان مفاهيم الوظائف الاميركية ذات الدخل العالي وما يتبعها من فوائد متعلقة بالرعاية الصحية والتقاعد والعطلات المدفوعة الاجر باتت معرضة لخطر.

ينظر السيناتور تشارلس شومر الى هذه التغيرات الاقتصادية كتحول نموذجي. ففي عصر التكنولوجيا الفائقة التطور في عالم الاتصال وانسياب رؤوس الاموال من دون قيود يمكن انتاج البضائع وتقديم الخدمات في أي مكان في العالم. ومع توفر عمال يتمتعون بمستوى عال من التعليم، فدول مثل الصين والهند على استعداد لأداء اعمال ومهام معقدة لقاء اجور تعادل نسبة ضيئلة من الاجور التي يتقاضها الاميركيون، ولم تعد هناك اسباب كافية تمنع هجرة هذه الوظائف الاميركية الى الخارج.

ويقول شومر انه في ظل هذه التغيرات ينبغي على الاميركيين ان يطرحوا اسئلة صعبة حول الآثار الواقعية لنظام التجارة الحرة كما عرفناه. ففي اشارة الى ديفيد ريكاردو، الاقتصادي البريطاني الذي اصبحت نظريته المعروفة بـ«نظرية الفائدة المقارنة» اساسا لنظام التجارة الحرة، يقول شومر ان ريكاردو «اسس لنموذج قدم خدمة كبيرة على مدى فترة طويلة، الا ان حقائق جديدة الآن فرضت نفسها على الواقع».

ابرز هذه الحقائق الجديدة واكثرها انذارا بالشؤم للعمال الاميركيين بيئة العمل السيئة في ظل التوسع الاقتصادي الراهن. ففيما يتعلق بتوفير فرص العمل، يعتبر التوسع الحالي الاكثر سوءا، ذلك ان الزيادة والنمو في فرص العمل منذ انتهاء فترة الركود الاقتصادي في الولايات المتحدة رسميا في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2001 ظل محصورا بصورة رئيسية في قطاع الاجور المتدنية، وهذه بالطبع ليست الوظائف الصاعدة التي ظلت على مدى فترة طويلة مرتبطة بالدخول الى الطبقة الوسطى في الولايات المتحدة.

كما ان هذه الوظائف ليست من النوع الذي كان يروج له ويبشر به مؤيدو نظام التجارة الحرة خلال عقد التسعينات عندما خدعوا عمال المصانع في اميركا مؤكدين لهم ان تحويل وظائفهم الى الدول التي يتقاضى عمالها اجورا متدنية إجراء ايجابي. كما اكد هؤلاء ان العولمة تطور ايجابي مذهل ولها فوائد لا تحصى وستتوفر في ظلها وظائف اكثر وافضل نوعا وعائدا.

في هذه البيئة ازدهرت الشركات المتعددة الجنسيات التي صارت تتمتع الى حد كبير ببعض النفوذ في تطوير السياسات التجارية لاميركا. العمال على وجه التحديد هم الخاسر الاكبر. فقد بات الجميع يدرك ان نقل الوظائف الى الخارج حيث العمالة الرخيصة لن يقتصر فحسب على عمال المصانع فقط. كما ان نقل هذه الوظائف الى الخارج ليس هو السبب الوحيد في تقليص فرص العمل داخل اميركا لكنه بالتأكيد سبب مهم. وفيما حظيت هذه القضية باهتمام كبير في الآونة الاخيرة، إلا انها لم تخضع للتدقيق والفحص اللذين تستحقهما القوى الاقتصادية القوية والفاعلة.

ليس ثمة شك في ان توفير مستوى المعيشة العالي الذي يتمتع به العمال يعتبر من اعظم انجازات اميركا، وهو انجاز تحقق نتيجة سنوات طويلة من النضال من اجل الحصول على اجور عالية وساعات عمل اقل وامتيازات في مجالي التقاعد والرعاية الصحية والعطلات المدفوعة الاجر وتوفير ظروف عمل مقبولة.

ولكن ليس من التقدم والتطور في شيء ان يجد العاملون انفسهم في مواجهة وضع الغيت فيه كل هذه الانجازات بجرة قلم. فما حدث سينعكس سلبا الوضع الاقتصادي لقطاع كبير من افراد الطبقة الوسطى، ذلك ان التوظيف وتوفير فرص العمل وفق شروط وظروف ممتازة ظلت بمثابة حجر الزاوية في الوضع المعيشي والاقتصادي المتميز للطبقة الوسطى التي تمثل قطاعا واسعا وسط الاميركيين.

ثمة اسئلة ينبغي ان نطرحها حول آثار النظام التجاري الحالي الذي لا يخضع لأي قيود. ترى، ماذا سيحدث للاقتصاد الاميركي بعد ان نقلت الكثير من الوظائف في مختلف القطاعات الى دول اخرى، مما اسفر عن فقدان عائلات اميركية الدخل اللازم لشراء المنتجات والاستفادة من الخدمات التي تحتاجها كي يستمر الاقتصاد الاستهلاكي.

على المستوى النظري، ليس من المفترض ان يحدث ذلك. إلا ان القلق يسيطر على العمال الاميركيين لأنهم يدركون ان الكارثة تحدث عندما تحدث المواجهة بين النظرية والواقع. فمن ضمن الاشياء التي غرقت مع «تياتانيك» النظرية التي جعلت «تايتانيك» سفينة لا تغرق.

* خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»