نحن... والعالم الآخر

TT

من يصغي الى المنطق السياسي ـ المصرح والمسرب ـ في واشنطن قد يراجع قناعته السابقة بان الولايات المتحدة هي العالم الاول في ما كان، الى عقد مضى، تصنيفا شائعا لدول الكرة الارضية الى ثلاثة عوالم... فالولايات المتحدة ، اليوم ، تتحدى التصنيفات «الجيوبوليتيكية» كلها لتطرح نفسها كعالم آخر، لا علاقة واقعية له بعالم اليوم.

الحديث عن شرخ أميركي ـ أوروبي أصبح، في مطلع القرن الحادي والعشرين، من المسلمات الاكاديمية. مع ذلك قد يكون شرخا قابلا للردم بفعل الجذور التراثية المشتركة بين دول ساحلي المحيط الاطلسي.

أما الشرخ الآخر، المتسع باطراد، مع العالم العربي، فلا تبدو في الافق السياسي القريب بارقة أمل في تقليصه... فكم بالحري ردمه؟

مناسبة هذا الحديث المواقف المعلنة قبل ايام من جانبي الطيف السياسي الاميركي الفاعل، اي الحزبين الجمهوري والديمقراطي، حيال القضية العربية الابرز، فلسطين، وهي مواقف تؤكد للحالمين بتغيّر السياسة الاميركية مع تغيّر الادارة وللآملين بسياسة أميركية أكثر اتزانا تجاه الشرق الاوسط، إن الحزبين الجمهوري والديمقراطي توأما الذهنية الايديولوجية ـ الاستراتيجية السائدة في واشنطن والمقولبة، سياسيا، من اللوبي الصهيوني، وتجاريا، من لوبي الصناعات الحربية .

حملة الانتخابات الرئاسية ـ وهي تقليديا حملة التهافت على الاصوات اليهودية ـ أتاحت للمرشح الديمقراطي الاوفر حظا لمنافسة جورج بوش، اي جون كيري، فرصة سانحة للمزايدة على خصمه في تلاوة فعل الولاء للصهيونية الاميركية والاعراب عن تأييده المطلق لحكومة«شعب الله المختار» الليكودية، فاستبق قرار محكمة العدل الدولية ليعلن، في بيان أصدره عقب عملية الاسبوع الماضي الانتحارية في القدس، «أن تشييد الجدار الفاصل هو عمل قانوني هدفه الدفاع عن النفس». وتجاهل كيري الموضوعية المهنية المفترضة فيه، بصفته محاميا ليقول «لا ينبغي ولا يمكن ان تكون للمحكمة صلاحية قانونية في هذا الموضوع..».

وإذا كان هناك ثمة شك في ان الولايات المتحدة تتحول في مواقفها من الشرق الاوسط الى عالم نسيج وحده، فقد يكون في جلسات الاستماع التي عقدتها لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الاميركي (الاسبوع الماضي ايضا) الخبر اليقين عن حالة الفصام مع الواقع التي تمر بها الذهنية السياسية الاميركية، فقد كان لافتا ان تتفق شهادات المسؤولين السياسيين السابقين أمام اللجنة ـ ابتداء بوزير الخارجية الاسبق هنري كيسنجروانتهاء بخبيري الشؤون الشرق اوسطية ، دنيس روس ومارتن انديك ـ على ضرورة الضغط على الدول العربية ـ لا اسرائيل ـ لتضغط بدورها على السلطة الفلسطينية بغية اقناعها بالقبول بمواقف اسرائيل في سبيل الوصول الى تسوية لأزمة الشرق الاوسط.

ورغم تكرار العواصم العربية التزامها بالمبادرة السلمية الجماعية التي اطلقها القادة العرب في قمة بيروت عام 2002، فقد زعم دنيس روس في شهادته امام اللجنة، ان القادة العرب «لا يريدون دفع ثمن التسوية، وهو مواجهة الاسلاميين، لانهم يرون ان ذلك الثمن اكبر من ثمن مشاهدة الفلسطينيين والاسرائيليين يقتتلون».

على مر العهود وكر السنين يزداد تحول الولايات المتحدة الى «عالم آخر» في تعاملها مع القضية الفلسطينية وتزداد مع هذا التحول غربة المنطق السياسي العربي في واشنطن ... الامر الذي يوحي بان الشرق الاوسط «الكبير»، الذي تعمل واشنطن على قيامه في المنطقة سيكون الحصيلة الحتمية للدور العربي «الصغير» في العلاقة المستقبلية بين الطرفين.

ولكن السؤال يبقى :إذا كان العربي وحده«حمّال الأسية» في النزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي، وإذا كان منطق العالم الثالث ـ على أحقيته ـ لا يجد له مستمعا مؤثرا في عاصمة «العالم الآخر»... فلماذا يلهث العربي وراء الحل السلمي في الشرق الاوسط؟