الاستراتيجية الإعلامية الأمريكية الجديدة (1)

TT

أشرت في مقالاتي السابقة الى ان النزاع العربي الإسرائيلي دخل مرحلة خطيرة مصيرية اخذت تدفع اسرائيل الى محاربة العرب على كل الاصعدة. من ذلك تدمير ذهنيتهم واخلاقيتهم. الظاهر ان اصدقاءها في واشنطن استطاعوا دفع الولايات المتحدة في هذا الاتجاه. من ثمرات ذلك انشاء اذاعة «سوا» وتلفزيون «الحرة». ترمي كلتاهما الى التوجه نحو الشباب بضخ موسيقى البوب والبرامج الخفيفة مع أقل ما يمكن من الأخبار أو الجديات. الفكرة هي انه بشد آذان الشبيبة لهذه المحطات سيمكن اشغالهم عن الاستماع للمحطات العربية التي تناقش القضايا الجدية في اطارات الوطنية والقومية والدين والتراث. وبعين الوقت ستغرس فيهم حب أي شيء أمريكي، وفي طليعته موسيقى البوب التي يتألق فيها الكثير من المطربين الاسرائيليين الذين ستبث ـ كما أتوقع ـ هذه المحطات أغانيهم.

ينسجم هذا الاتجاه مع الرأسمالية الأمريكية القائمة على تشجيع الروح الاستهلاكية. فما من ميدان تجتاحه هذه الروح كميدان موسيقى البوب بما ينطوي عليه من بيع المدمجات والكاسيتات والاجهزة الالكترونية الباهظة التي تستحوذ على اهتمام الشبيبة.

سُلّمت هذه القنوات لمن ينسجمون مع هذه الاستراتيجية الى حد استبعاد أي مواطنين عرب آخرين. وفي هذه الاثناء أعلن اغلاق محطة العراق الحر التي اقامتها الخارجية الأمريكية خلال الصراع مع صدام حسين، وعهدت بادارتها للسفير الامريكي السابق ديفد نيوتن والكاتب العراقي كامران قرداغي. يتميز كلا الشخصين والفريق العامل معهما بالروح الجدية العلمية واحتذيا في ادارة الاذاعة بأسلوب البي بي سي الذائع الصيت، وهو الموضوعية والتوازن والجدية. نالت هذه الاذاعة من الاحترام والاقبال ما اعطاها حسب الدراسات الاخيرة 10% من مجموع الاستماع لكل المحطات الاجنبية. كنت وما زلت واحداً ممن يقدمون منها حديثاً اسبوعياً بعنوان أيام الخير . لقي من الاقبال الشعبي ما جعل مخابرات صدام حسين تتصل بي وتطالبني بالتوقف عنه.

ستغلق هذه المحطة الآن. فهذا اتجاه لا يتفق مع الاستراتيجيا الجديدة المصممة على الغاء التفكير والتنوير واستبدالهما بالتهميش والتجحيش.

ولكن والحق يقال، لا ينسجم هذا الاتجاه الجديد مع الأماني الاسرائيلية فقط، وانما يمتد ايضا من ذات القيم الامريكية القائمة على الاستهلاك والفردية والفجاجة، وفي هذه الايام استغلال الجنس والخلاعة والبذاءة والتركيز على الصبية والصبابة. يتأملون من وراء جر الشباب الى هذا النوع من الحياة سيبعدهم عن مهاوي الارهاب والعنف ومعاداة اسرائيل والغرب. ولعل هذا ما يفسر حرصهم على تأجيل الانتخابات في العراق، وكسب مدة اطول من الهيمنة الامريكية. سيتأملون بمرور سنتين أو اكثر وصول هؤلاء الصبيان المتأمركين سن الانتخاب وغسل ادمغة الآخرين بهذا التهميش الثقافي بحيث يستطيع اصدقاء اسراميكا (اسرائيل وامريكا) الحصول على ما يكفي من الاصوات التي يمررون بها السياسات الاسراميكية. ماذا يخبئ المستقبل لهذه السياسة؟