الصوفي والدرويش

TT

قتلى ومجهولون لا نسيان يجمعهم

ولا ذكرى تفرقهم.. ومنسيون في

عشب الشتاء على الطريق العام بين

حكايتين طويلتين عن البطولة والعذاب

(اعتذر عما فعلت) قلتها لمحمود درويش مداعبا ومستعيرا عنوان ديوانه الجديد «لا تعتذر عما فعلت» وكنا حينها في دردشة جانبية ومعنا عبد الحميد احمد الامين العام لجائزة العويس الثقافية بعد منح تلك الجائزة هذا العام لادونيس ومحمود درويش معا في دبي.

وكانت الدعابة التي نتبادلها قبل طلب الاعتذار الافتراض ان شارون المحب للشعر والموسيقى والسلام بنى الجدار خصيصا لمحمود درويش فبعد ان سمع رجل الشعر والسلام بصدور ديوان محمود السابق «جداريات» وعرف ان العرب كانوا يعلقون قصائدهم على الابواب والحيطان قرر ان يبني جدارا خاصا ليعلق عليه جداريات محمود درويش بالعبري من الطرف العربي وبالعربي من الطرف العبري وبالحبر السري ان اقتضى الامر على الجانبين وبذا لا يفهمها أحد ويكون الشاعر السبب الخفي في بناء الجدار.

وضحك الشاعر وهو يدوزن اعتذاره لينتقل الحديث الى قصائد الديوان الاخير الذي لا نعرف سيعلق بأي حبر ولا على اي جدار وفي ذلك الديوان عناية خاصة بالايقاع اعادت درويش الى حنين القافية كلازمة ايقاعية واعادت الاقتناع لادونيس بان الشعر القديم أكثر صلاحية للتطريب فحين غنت له مي فاروق في الامسية الاستثنائية أغنية شجية لم تجدها الا في الموزون المقفى من جديده ـ القديم:

أكاد ألمح أحلامي مكدسة

كأنها ورق يجتره الورق

وقد ادرك ادونيس متأخرا ككل المتصوفين على شيب وشك ان كل شاعر لا بد له من عود لذا انتجت صحبته مع نصير شمة افضل أمسياته وذاك وتر عزف عليه محمود دريش مبكرا منذ شراكته الفنية مع مارسيل خليفة التي اثبتت كتجربة كاظم ونزار ان الشعر لا ينتشر جيدا من دون موسيقى وغناء حتى وان كان كاتبه شاعرا من الوزن الثقيل. ورغم جهود أدونيس الصوفية في التقرب الى الناس ما يزال الدرويش أقرب الى الجمهور العربي الاعرض وهذا حكم لا تعرف من تمدح فيه ومن تذم، أحد الشعراء أم الجمهور لكنه يؤكد على شيوع ذلك الحكم النقدي الذي نقلته سيدة لجارتها همسا في الامسية الاستثنائية عن شعر أدونيس فقالت بصوت لم تسمعه من حسن الحظ كل القاعة: «شعره متل كلام يونس شلبي صعب ينفهم».

ومع عودة لمثل هذه الاحكام لا بد ان يحضر ابو تمام مع ادونيس في مسألة الفهم والافهام ويعود في مسألة اخرى مع الدرويش الذي جعل قول الطائي المفجع في تبدل المصائر مدخلا لديوانه الجديد:

«لا أنت أنت.. ولا الديار ديار» ولو أراد التبديل على الطريقة الفلسطينية لقال: لا الارض أرض.. ولا الجدار جدار.

لقد كانت شجاعة محمودة ومؤدنسة لجائزة العويس ان تنتصر للصوفي والدرويش أكبر شاعرين من شعراء الحداثة العربية وشجاعة اخرى من رئيس مجلس أمنائها عبد الغفار حسين ان يعلن في خطبة الافتتاح عن موقف ينحاز للدولة المدنية ومجتمع حقوق الانسان مما يضيف حداثة الموقف السياسي الى الحداثة الادبية التي لم نعرف قبل هذا القرن غيرها.

غير ان الانجاز الاهم لهذه الجائزة هذا العام نزع فتيل الحساسيات التي ترافق ظهور شاعرين بهذا الحجم على منصة واحدة وهو جهد جرى خلف الستار ولا أشك للحظة انه معقد وحساس، فالقمة في الثقافة العربية كانت قبل هذا الحدث الثنائي والاستثنائي كالخازوق لا تتسع الا لشخص واحد لا يحس بنشوة الفوز الا اذا ألغى الجميع وأوقعهم بالضربة القاضية كي يظل الشاعر العربي كالقائد السياسي العربي وحده على الخشبة، محاطا بالتبريكات والشيكات والأهازيج.