شرق أوسط كبير.. أم مبادرة "نص كم"؟

TT

ادق وصف لمبادرة الادارة الامريكية للشرق الاوسط الكبير هو انها، مبادرة "نص كم" حسب التعبير المصري. "ونص كم" عبارة تعني انها تلاعب بالمظهر لاخفاء جوهر مخالف، "نص كم" لأن معادلة الاستقرار في الشرق الاوسط لا تتحقق إلا بتوأمة مفهومين اساسيين هما:

الأول: السلام بين وحدات النظام الامني الاقليمي المتمثل في الدول، خصوصا بين العرب واسرائيل.

الثاني: هو الاصلاح الذي ينظم علاقة الحاكم بالمحكوم في داخل الدولة الواحدة. سلام خارجي، وسلام داخلي ناتج عن اصلاح، هما اساس الاستقرار. هذا هو "الكم الكامل".

التركيز على اي واحد منهما من دون الآخر هو ممارسة الخداع بعينه، وهو سلوك "نص كم". الاتفاق الضمني بين العرب وامريكا هو ان السلام مسؤولية امريكية، والاصلاح مسؤولية عربية، ومتى ما تخلى أي طرف عن مسؤوليته او بدلها بمسؤولية الآخر، يكون السلوك ايضا "نص كم".

فضلت تعبير "نص كم" كعنوان بدلا من الكلام "الغلس والمجعلص" على غرار "الشرق الاوسط الكبير: رؤية في المحددات وملامح التغيير". والكلام المدعى وغير المفهوم، ولأني احاول التواصل مع الناس وليس مع حفنة المثقفين، فقد قررت استخدام لغتهم، لذا كتبت بلغة الناس المفهومة لديهم ولدينا، ومن هنا فضلت توصيف المبادرة بأنها "نص كم" عن كونها مبادرة ناقصة، وهو التعبير الأسلم والادق.

قرأت المبادرة وناقشتها لساعات مع استاذ كبير للسياسة، من محبي ادارة الرئيس بوش والمخلصين له، ومع ذلك قال "كنت اتمنى ان يكون في الادارة ولو واحد يعرف اولويات المنطقة وخصوصياتها الثقافية". وقال ايضا "كنت اتمنى لو تعرف ادارة بوش من كتب تقرير التنمية البشرية التي استند اليها التقرير"؟!

أسئلة كثيرة طرحها، كلها تصب في خانة ان القائمين على هذه المبادرة هم مجموعة من الهواة من حسني النيات، يريدون الديموقراطية ولا يعرفون تكلفتها، لا يعرفون ان الانتقال الى الديموقراطية أو التحول الديموقراطي هو عملية اكثر خطورة على الاستقرار من اي هزة سياسية اخرى. وبالفعل، فالناظر الى عمليات التحول الديموقراطي في امريكا اللاتينية او في اوربا الشرقية، يدرك حجم العنف، وكذلك حجم التكلفة الاجتماعية الناتجة عن تحول نحو الديموقراطية لم تتم ادارته بشكل جيد.

وادارة التحول الديموقراطي، مهما كانت مهارة القائمين على العملية، لا تستطيع ايجاد ترتيبات بديلة لما نسميه في علم السياسة "بالنتائج غير المحسوبة" unintended consequences. النقطة الجوهرية هنا، هي ان القائمين على دمقرطة الشرق الاوسط في ادارة بوش الآن، ينحازون الى الايديولوجية والاعتقاد المسبق على حساب العلم والمعرفة. كما انهم لا يعرفون أن كثيرين ممن ساهموا في تقرير التنمية البشرية العربي، الصادر عن الامم المتحدة، هم مجموعة القومجية الذين أقاموا على تل الخراب الذي يصفونه حسب قول صديقي الاستاذ. وبالفعل قرأت اسماء القائمين على التقرير، بحثا عن علماء السياسة والاجتماع المعروفين عالميا وفي المنطقة، ولم اجد إلا اسما او اثنين كذر للرماد في العيون، اما البقية الباقية فكانت من محترفي الترويج السياسي في لحظات الازمات، كما ان التقرير نفسه، لا يرقى الى مستوى العلم والدعاية التي اعطيت له، ولهذا حديث آخر في مقال آخر. ولكن النقطة الاساسية هي ان نصف العلم مشكلة، وهذا ما جاء في التقرير نصف علم يعطي توصيفا ناقصا، وبالتالي فأي سياسة تبنى عليه ستكون ناقصة. نعم لدينا النواقص الثلاثة كما ادعى التقرير: نقص في الحريات، ونقص في المعرفة والعلوم، ونقص في دور المرأة في المجتمع. نقص يقارن التقرير فيه العرب دائما بافريقيا جنوب الصحراء بعنصرية فجة، وكأن من يقيمون في جنوب الصحراء هم مجموعة من القردة وليسوا إخوة لنا في الانسانية.

التقرير مكتوب بشكل دعائي صحفي، ولا يرقى الى مستوى العلم، كي تتكئ عليه الدولة العظمى الوحيدة لتبني استراتيجية تغير للمنطقة.

في مبادرة الشرق الاوسط الكبير مجموعة من الاخطاء، اذكر منها الخطأ الاكبر، وهو غياب ما يسمى بالمفهوم الاستراتيجي Strategic Concept، وبالمفهوم الاستراتيجي اعني ان يكون للمبادرة عمود فقري يجعلها متماسكة كوحدة تحليلية تطرح حلا بناء على هذا المفهوم الاستراتيجي. وطرحت هنا ومنذ عامين. وكررت ذلك منذ اسبوعين ان المنطقة تحتاج الى النظر الى مفهومين اساسيين في ذات الوقت وبنفس الرؤية ونفس المقياس. هذان المفهومان هما (1) السلام، (2) الاصلاح، بحيث ينظم السلام علاقات دول المنطقة ببعضها البعض، ويمنع الحروب. عليه يجب حل القضية الفلسطينية حلا عادلا لتسوية الخلاف العربي ـ الاسرائيلي. وهذا هو الجزء الاكبر من مفهوم السلام. كما ان هناك قضايا خلافية بين الدول المجاورة حول الحدود، قد تؤدي الى نشوب حروب، على غرار غزو صدام حسين للكويت عام 1990 بدعوى الخلاف الحدودي.

تسعون في المائة من مكونات مفهوم السلام والاستقرار في المنطقة هو الصراع العربي ـ الاسرائيلي، وعشرة في المائة بقية القضايا الحدودية. وهناك اتفاق شبه ضمني بين الولايات المتحدة والعرب، يقول ان امريكا ستساعد، او بالاحرى تلتزم بتنفيذ السلام، كجزء خاص بها، في المساومة التي حدثت بينها وبين العالم العربي. وفي المقابل، يقوم العرب بمجموعة اصلاحات داخلية تنظم علاقة الحاكم بالمحكوم. وبالتالي يكون الاستقرار الاقليمي عبئا امريكيا، والاستقرار الداخلي عبئا عربيا.

الجديد في هذه المبادرة التي سمتها "نص كم"، هو ان امريكا تخلت عن الجزء الخاص بها في الاتفاق. فبدلا من التزامها بالسلام، وجدناها تتبنى الدمقرطة والاصلاح الداخلي، الذي هو في الاصل، أمر متروك لأصحاب المنطقة انفسهم. وبدلا من ان تعلن الولايات المتحدة فشلها في تقديم ما هو مطلوب منها من الاتفاق الضمني وهو السلام، قررت ان تقول ان همها الآن تحول الى الدمقرطة واصلاح البيت العربي. استراتيجية الهروب من الالتزامات هذه، هي التي دعتني أن اسمي هذه المبادرة بأنها مبادرة "نص كم"، لأن ظاهرها الاهتمام بالاصلاح وباطنها الهروب من الالتزام. لماذا لا تلتزم الولايات المتحدة بدورها الخاص بتحقيق السلام وتترك الاصلاح لطرف المعادلة الآخر؟!

بالطبع، التركيز على ان العالم العربي وعدم ديموقراطيته هما سبب مشاكل عدم الاستقرار في المنطقة، يعني تحويل الانظار عن عوامل عدم الاستقرار الاخرى، مثل الثورتين الملتهبتين في كل من فلسطين والعراق، خصوصا في فلسطين. التركيز على الدمقرطة يعفي امريكا من التركيز على السلام كما ذكرت في مقالين سابقين. ولكن الحقيقة التي لن يتسامح فيها اهل المنطقة هي ان هذا النوع من فرض الوصاية دونما النظر الى الامور بمنظور عادل، هو أم مشاكل المراحل المقبلة.

بالطبع، أنا اعقل بكثير من ان اقول ان السيادة هي امر مطلق في عصر العولمة، نعم، لامريكا مصالح في المنطقة العربية، وللعرب مصالح مع امريكا، ومن حق الطرفين الاتفاق او الاختلاف. ولن تكون هناك سيادة مطلقة لأي من الطرفين. ولكن الوصاية المطلقة، وكذلك السيادة المطلقة هما مفهومان قد يؤديان الى صدام حتمي في المستقبل.

للسيادة المطلقة التي يطالب بها بعض العرب التزامات، اولها ان "تمنع اولادك من ركوب طائرات وتحطيمها في ابراج الناس الآخرين". وثانيها ان تنظر الى اي جهاز في يدك من تلفزيون الى كومبيوتر لترى ان كل قطعة فيه صنعت في بلد وانه جمع في بلد ثالث. لا توجد سيادة مطلقة في عصر العولمة، توجد شراكة فقط. كما ان العولمة ايضا، ترفض الوصاية التي تظهر في مشروع الشرق الاوسط الكبير.

في الاتفاق العربي ـ الامريكي الضمني، امريكا يجب ان تلتزم بتحقيق السلام، ويجب على العرب الالتزام بالاصلاح. أما تبديل المواقع، الذي حدث من خلال هذه المبادرة، فهو الأخذ بنصف المعادلة الاقليمية للاستقرار.

ركزت امريكا على الديموقراطية، وتركت النصف الثاني من معادلة الاستقرار. حقا انها مبادرة "نص كم".