عراك السلاحف الشريف على فتات المكرونة..!

TT

الهنود قوم كرماء. فقبل يومين فقط دخلت قاعة مكتظة بالشباب الهنود الذين لا تتعدى أعمارهم العشرين. وقد صفق لي هؤلاء الشباب وهبوا واقفين احتراما، لأنني قرأت بصورة سليمة الفقرة التالية:

«امتلأت زجاجة من المياه المعبأة بثلاثين سلحفاة صغيرة. وليست المشكلة هي أن كل سلحفاة كان عليها أن تسحب مغرفة معدنية حتى تتحصل على بعض المكرونة، التي هي الغذاء المفضل للسلاحف، ولكن المشكلة أن السلاحف كانت تتعارك من أجل كميات غير كافية من المكرونة».

كنت أحضر درسا عن «إزالة اللهجة المحلية» في مركز للاتصالات الهاتفية يعمل 24 ساعة، 7 أيام في الاسبوع. وكانت المدربة تدرس طلابها الذين تعدهم لتشغيل المركز كيف يتخلون عن لهجتهم الهندية ليتحدثوا بلهجة كندية. وهي تدرس اللهجات الإنجليزية والأميركية أيضا، ولكن هؤلاء الشباب سيقدمون خدماتهم للسوق الكندي. ونسبة لأنني اساسا من منيسوتا، بالقرب من كندا، وما أزال أتحدث وكأنني أحد الممثلين في فيلم «فارغو»، فقد كانت قراءتي لقطعة «السلاحف الصغيرة» مثالا في الإتقان مما دفع الشباب لهذه الحفاوة والاحتفاء.

مشاهدة هؤلاء الشباب وهم يعدون أنفسهم لإدارة هذا المركز، ويحاولون بجدية كاملة تخفيف تاءاتهم ومط راءاتهم، تنعش القلب والنفس، وخاصة عندما تسمع من أصدقائهم الذين التحقوا من قبل بهذه الوظائف كيف تغيرت حياتهم بصورة درامية. وأغلب هؤلاء ما يزالون يعيشون بمنازل أسرهم ويحولون جزءا من رواتبهم إلى هذه الاسر، مما يجعل كل افراد الاسرة في وضع أفضل. والكثيرون منهم يحملون البطاقات الائتمانية ويتحولون إلى مستهلكين حقيقيين، حتى للبضائع الأميركية، لأول مرة في حياتهم. ومن الواضح أن الكثيرين منهم اكتسب ثقة بالنفس وطور شعورا قويا بالاعتزاز بها.

ومع أن كثيرا من هؤلاء الشباب الهنود والشابات الهنديات، قد أكملوا دراساتهم الجامعية إلا أن أيا منهم ما كان ليحلم مجرد حلم أن يحصل على وظيفة تبدأ بـ200 أو 300 دولار في الشهر لولا مركز الاتصالات هذا. بعضهم يجري محادثات «خارجية» لبيع كثير من الأشياء من بطاقات الائتمان إلى خدمات الهاتف إلى الأميركيين والأوروبيين. ويستقبل الآخرون المكالمات الواردة التي تتعلق بكل شيء تقريبا من البحث عن عفش ضائع لبعض المسافرين على الخطوط الأميركية إلى إصلاح أجهزة الكومبيوتر التي يملكها أميركيون. وتحول هذه المكالمات عن طريق الأقمار الصناعية أو الكوابل.

وقد اعجبت بصورة خاصة بمهندسة هندية شابة تعمل في قسم الدعم الفني في واحدة من أكبر شركات السوفت وير، عندما تحدثت عن المتعة التي تشعر بها وهي تحدث أصدقاءها كيف قضت اليوم وهي تشرح لزبائنها الأميركيين كيف يستخدمون السوفت وير الخاص بأجهزتهم. أغلب هؤلاء الفنيين العاملين في مركز الاتصالات من الشابات، اللائي تحررن بحصولهن على أجر محترم بالمقاييس المحلية، واصبح في مقدورهن أن يحددن من يرفضن ومن يقبلن للزواج، بل صار في مقدورهن استغلال هذه الوظائف للتحضير لدرجة الماجستير في إدارة الأعمال وغير ذلك من الدرجات العلمية.

وقد استمعت إلى بعضهم وهاكم الحصيلة: يقول م. دينش، الذي يعمل في قسم الدعم الفني، ان السعادة تغمره عندما يتصل أحد الأميركيين عارضا مشكلة ما، وتنم نبرات صوته عن الارتياح لأنه وجد على الخط شابا أو شابة هندية. «يقولون لك: أنتم تجيدون عملكم. أنا سعيد لأني صادفت هنديا على الخط».

وعندما سألت كيران مينون عن مثله الأعلى، أجاب دون تردد «إنه بيل غيتس. أنا أحلم بتكوين شركتي الخاصة لتكون في حجم شركته».

ثم سألت م. ميغنا عما استفادته من هذا العمل، فقالت: «الثقة بالنفس. الثقة الكبيرة بالنفس عندما يجيئك الناس بمشكلة وتستطيع حلها. ثم حققت الاستقلال».

ونسبة لأن مركز الاتصالات يعمل أثناء الليل الهندي، الذي يقابل النهار الأميركي، فإن ميغنا تقول ان ساعتها البيولوجية تعمل بالمعكوس، «أما ما عدا ذلك فكل شيء على ما يرام».

ليس ثمة شيء اكثر إيجابية من الثقة بالنفس والكرامة والتفاؤل التي تتولد في مجتمع يعرف أنه ينتج الثروة بتفجير الطاقة الذهنية لمواطنيه، نساء ورجالا، في مقابل مجتمعات تحصل على ثرواتها بطرق أيسر لا تعب فيها دعك من مجتمعات فقدت الأمل وتوغلت في التيه بحيث أنها لا تجد الكرامة إلا من خلال الانتحار.

وفي الحقيقة فإنني وأنا أستمع إلى هؤلاء الشباب الهنود داهمتني صورة أخرى. قبل خمسة أشهر كنت في رام الله، بالضفة الغربية. وكنت أتحدث إلى ثلاثة شبان فلسطينيين، في العشرينات أيضا، وكان أحدهم يدرس الهندسة، وكانوا يتحدثون عن أنهم يائسون هجرهم الأمل، وهم بلا وظائف ولا كرامة. وقد أومأوا برؤوسهم موافقين عندما قال أحدهم انهم ينتظرون دورهم كانتحاريين.

ماذا أقول هنا؟ هل أقول ان الشباب الهندي يحتاج إلى الوظائف أكثر من حاجة الشباب الأميركي؟ طبعا لا. ولكني أقول إن أهمية دفع الاستثمارات إلى الخارج تتعدى الاقتصاد. هناك اعتبارات الجغرافيا السياسية. فمن الحتمي في عالم على هذه الدرجة من الترابط، أن ينتج اقتصادنا وظائف متدنية الأجور ومتدنية القيمة المعنوية بمقاييسنا نحن. وإذا دفعنا بهذه الوظائف إلى الهند وباكستان، حيث ينظر إليها كوظائف عالية الأجر وعالية القيمة، فإننا لا نساهم فقط في خلق عالم أكثر رفاها، بل في خلق عالم أكثر أمنا وسلامة لشبابنا في سن العشرين.

* خدمة «نيويورك تايمز»