الحبس والعفو

TT

عندما اقرأ خبرا عن الافراج عن السجناء السياسيين في العالم العربي، لمناسبة ما، اصاب بالذهول. ليس للعفو فهو واجب. والحديث الشريف يقول انه اعظم من الحق. ولكنني اذهل عندما اكتشف ان السجون العربية كانت تضم كل تلك الآلاف التي لا يدري بها وباعدادها احد سوى الأهل الذين يسمح لهم بزيارة السجون المقززة والمكربة. وعندما اصدرت مصر الاسبوع الماضي قرارا بالغاء الحبس في قضايا النشر، بما في ذلك المنشورات او الكتابة على الجدران ضد التوريث في الجمهورية، اصبت ايضا بالذهول، لأنني تذكرت عمالقة الصحافة المصرية الذين ادخلوا السجن الى جانب القتلة والسفاكين بينما استطاع سارقو المال العام الهرب الى فنادق اوروبا لكي يعقدوا منها «تسويات» حول العودة والعمل.

لقد حققت مصر انجازا او وضعت سابقة لن تجرؤ الدول العربية الأخرى على حذوها. فالحبس السياسي لا يزال ركناً او اساساً في الأنظمة. وفي بلد مثل لبنان لا تزال المادة الرقم واحد من قانون الاعلام تهدد الصحافي بالسجن. وقد دخله صحافيون كثيرون اشهرهم غسان تويني. ولكن حظ الصحافة المصرية في السجون كان اكبر بكثير: من احسان عبد القدوس الى مصطفى امين الى محمد حسنين هيكل. وكان سعيد فريحة «يهرَّب» الى مصطفى امين في ليمان طرة، شيئا واحدا هو الورق او اقلام الرصاص. فقد كانت ولا تزال اكثر خطورة من السلاح في العالم العربي. لقد دك جمال عبد الناصر مصطفى امين في السجن بتهمة التعامل مع الاميركيين بعدما كان رسوله اليهم. ودك انور السادات محمد حسنين هيكل في السجن لأنه رفض ان يواليه في كامب ديفيد. وفي الحالتين لم يكن من الصعب اطلاقا «جمع الأدلة» فهي جاهزة سلفا. وكذلك الشهود واحيانا يؤتى بهم الى القضية او عكسها من دون رفة جفن.

لقد اخرج الرئيس حسني مبارك بقراره الغاء الحبس في النشر، اخرج الثقافة السياسية العربية من عقود وعهود العتم الموروث. فمعظم القوانين التي انتقلت الينا جيلا بعد جيل، إما انها جاءت من ايام الاستعمار او من ثقافة القمع السوفياتية التي دخلت حياتنا باسم الثورة والعدالة الاجتماعية، لكنها لم تكن سوى تعاليم في الفظاظة والقسوة والسجن والقتل. وهي تعاليم تخلى عنها ماركسيو اوروبا بحكم الزوال والصدأ التلقائي، وتخلى عنها مفكرو اليسار العربي بكل جرأة وشجاعة. ولن انسى يوم سمعت ركن الحزب الشيوعي اللبناني كريم مروة يقول: «لقد كنت يافعا اؤمن بستالين واعجب به والآن لا اريد شيئا سوى المظلة الديموقراطية».

الحرية، او ثقافة الحرية، لا تهبط بالمظلة ولا تساقط مع المطر. ولا هي تقوم على النصوص القانونية التي يضعها قاض خائف في يد شرطي خائف لكي يفرضها على مواطن ميت من الخوف. الحرية شراكة عظيمة بين الشعوب والأهم حق الشعب والدولة معا، والقانون هو فقط الحَكَمْ. واحيانا لا نخاف عليها من الشرطة بقدر ما نخاف عليها من بعض كتاب السواطير وصحافيي البقالات. لقد ألغت الدول الغربية قوانين الحبس من زمان لكنها في المقابل احكمت قوانين الذم والقدح والتشهير. ورفعت العقوبات المالية كما رفعت نسبة التعويض على المتضررين، بحيث لا تبقى كرامة وحرمة اصحاب الكرامات عرضة لكل جزار او بلطجي ذهب الى اقرب دكان واشترى ورقة وقلما. ولما صارا بين يديه ظن ان لهما قيمة الورق الذي كان سعيد فريحة يهربه الى مصطفى امين في السجن او الورق الذي كان يرسل الى غسان تويني في قاووش سجن الرمل. هؤلاء في مصر وخارجها يجب ان يبقى لهم قانون يذكرهم، بأن الكتابة بالسواطير والسكاكين على ورق الكدش، لا تشكل صحافة ولا تصنع صحافيين، ولا تنتمي الى مهنة الورق وشرف الحبر.