الدين: عود ثقاب العالم!

TT

أدر مؤشر الأخبار، ستسمع: مباحثات سلام في السودان، ومباحثات سلام في بوروندي، ومباحثات سلام في سيريلانكا، ومباحثات سلام في كشمير، ومباحثات سلام في كوريا، ومباحثات سلام في هاييتي، ومباحثات سلام في أيرلندا، ومباحثات سلام في الشيشان، ومباحثات سلام في قبرص، ومباحثات سلام في البوسنة، وملايين من مباحثات السلام في فلسطين بالطبع وأفغانستان والعراق! ما الذي يجري في الكون؟ كنت في طفولتي لا أعرف مشكلة في العالم سوى فلسطين، الآن أصبح العالم كله مشكلة! هل أنا الذي كبرت وازداد وعيي بما حولي، أم أن الحروب والنزاعات هي التي كبرت؟ في كل يوم تدفق فيه نقطة حبر واحدة في اتفاقية للسلام، تدفق عشر نقاط حبر في اتفاقية للسلاح، وتدفق ألف نقطة دم في حوار مسلح! ما الذي يجري في الكون؟ يقتل المتمردون في عملية مفخخة عدداً من الناس هنا وهناك، ويقتل «عقلاء» الكون في عملية قصف عشرات من الناس. أي أنك اليوم معرض للقتل من لدن المجانين أو العقلاء.. وإذا كان الموت سيأتي للبريء فسيّان عنده من يفعله.. مجنون أم عاقل ! كانت مبادرات السلام فيما بعد الحرب العالمية الثانية حالات استثنائية، الآن أصبح السلام هو الاستثناء، والمساعي للبحث عنه هو السائد. هل سيتحول الكون كله إلى «مشروع سلام»! لست أفلاطونياً حتى أحلم بعالم دون دماء، لكني إنسان أحلم بعالم غير دموي.

كما إني لا أحلم بعالم ملائكي، لكني إنسان أحلم بعالم غير حيواني!

المفارقة العجيبة أن الدين، أي دين، دوماً ما يردد أتباعه أنه دعوة للسلام والتسامح والطمأنينة، في الحين الذي نبني معظم اقتتالنا واغتيالاتنا على الدين ومن أجل الدين.

بل حتى داخل النسيج الإسلامي نفسه ـ لفت انتباهي إلى ذلك أحد المعلقين في منتدى أحسائي الأسبوع الماضي ـ تُستجلب النصوص الشرعية دوماً للحديث عن أهمية الوحدة الإسلامية، في الوقت نفسه الذي تستجلب فيه النصوص الشرعية أيضاً لتفريق الأمة وتجزئتها وتصنيفها.

وعلى نفس المنوال، يتكرر الخطاب الوحدوي والفعل التجزيئي دينياً في النسق المسيحي واليهودي!

فهل الأديان تدعو إلى السلام حقاً أم إلى الحرب، إلى التسامح أم إلى الخصومة، إلى الوحدة أم الفرقة، إلى المحبة أم العداوة، إلى الماء أم الدماء؟!

في الإسلام مثلاً: عندما يقول الله عز وجل: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»، هل المقصود هنا العالمين المسلمين، أم العالمين كافة، الذي أسلم منهم والذي لم يسلم، بما جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من قيم تراحم وتعايش يفيد منها المسلم وغير المسلم؟ أتحدث هنا عن السلام في الدنيا، وليس السلام في الآخرة فذلك له موازين أخرى.

وبالمثل يمكن النظر إلى نصوص التوراة التي يبني عليها اليهود اليوم أكلهم لفلسطين وسحقهم لشعبها، ونصوص الإنجيل التي يبني عليها المسيحيون الإنجيليون في أمريكا اليوم مشروع أكلهم للعالم وسحقهم للشعوب!

إذا كان الدين يدعو إلى السلام والرحمة لأهله المنتمين له فقط، فهذا ليس جديداً ومتفرداً للدين، فكل نظام وعقد اجتماعي مهما كبر أو صغر، من الدولة وحتى الأسرة، يعطي أولوية السلام والتراحم لأهله قبل سواهم. وهذا سيقودنا إلى سؤال كبير، يكبر اليوم أكثر وأكثر، يجب أن يجيب عنه العلماء إن كانوا يستطيعون: هل الدين يدعو إلى السلام لبني الإنسان كافة، أم إلى الحروب والاقتتال حتى لا يبقى في الكون سوى أتباعه؟! أي أننا لو افترضنا وجود عالمين في كوننا هذا، أحدهما: كعالمنا هذا بأديانه وطوائفه ومذاهبه، والآخر عالم خال من الأديان، أيهما أكثر أمناً وسلاماً واستقراراً؟ الإجابة البديهية التي رضعناها مع الفطرة هي أن العالم الخالي من الدين هو عالم موحش خاوٍ مأزوم عبثي، لا قيم فيه ولا أخلاق تحكمه، إنه بإيجاز: «عالم سفاري»! هذه هي الإجابة البديهية النابعة من المفهومات الأساسية لوظائف الدين سوسيولوجياً، لكن المشاهد في العالم الآن هو أن الدين أصبح عود ثقاب نشعل به شرق الأرض وغربها.. حتى يشمت بنا الملحدون! ثم يجدون مبرراً لتمرير قناعاتهم وقوانينهم اللادينية التي تريد أن تحكم العالم اليوم في شؤون المال والجنس والنظم الاجتماعية.

هل أصبح حقًا نموذج الجزيرة المعزولة بدون أديان، أكثر أمنًا وسلامًا من أرض الأديان ومهبط الرسالات؟!

هل الدين حقاً عود ثقاب العالم، أم أننا نحن الذين أشعلناه ثم قذفناه في كومة قش العقول البشرية، بدلاً من أن نشعله ونستضيء به في ظلمات الحياة ودهاليزها.

أسئلة مخيفة، تذكروا قبل الإجابة عليها أننا نحن المسلمين نصلي كل يوم قائلين: اللهم أنت السلام ومنك السلام... يا رب.

* رئيس تحرير مجلة «المعرفة السعودية» ـ [email protected]