أين الخطأ ( 3 من 3)

TT

لم يكن غياب المشاركة السياسية مستغربا، فالجماهير العربية نفسها غير منظمة وربما تكون محنتها بالمعارضة السياسية العربية أكبر من محنتها بالحكومات التي تسلبها حق المشاركة، فالجميع ( حكومات ومعارضة وجماهير) لم يعملوا على ترسيخ مبدأ المشاركة الشعبية بالقرار السياسي ولم يتمكنوا من بناء المؤسسات التي تلزم بالمشاركة في الثروة والسلطة وتداول الحكم، فهم جميعا مع اختلاف الادوار ابناء ثقافة سياسية ليس فيها الا الواجبات وتعاليم الطاعة خوف الفتنة (سلطان غشوم ولا فتنة تدوم ) ويعيشون في ظل دول صنعها الاستعمار لحاجة تنظيم الدوائر الخارجية اللازمة لاستراتيجياته لا لصناعة الاستقرار والازدهار اللذين لا يتحققان الا في مجتمع مدني، فالدولة العصرية والمجتمع المدني متلازمان، ولأن الاثنين بالمفهوم المتطور غائبان عن الحياة السياسية العربية ظلت الامور انتقائية وتمويهية وانشائية ونظرية، فالحديث عن المشاركة والتعددية في كل مكان ومنبر، لكن القرار ما يزال فرديا ومركزيا بالرغم من القفزة الهائلة في الوعي السياسي التي وفرها التلفزيون وقبله الجامعات.

لقد كان المشهد السياسي العربي أوائل القرن الحادي والعشرين ـ مع بعض الفروقات ـ كالمشهد السياسي في أواخر القرن التاسع عشر انشاء فخما وتزييفا للمفاهيم وقفزا فوق الاستحقاقات وعموميات ملساء مطاطة وغير ملزمة بحيث لا يستطيع ان يتعامل معها أي رجل دولة حصيف تمرن على الوقائع لا على النظريات وسرحات الخيال والاوهام.

ومن الأدلة على استمرار هذا النهج الانشائي الى الربع الأخير من القرن العشرين ما يحكيه فؤاد عجمي عن محاولة هيكل اقناع كيسنجر بأن مصر الثورة غير مصر الدولة ومن حقها ان تتدخل في محيطها العربي، فهي تجسيد لفكرة ولمد تاريخي وقومي، ويقال ان كيسنجر رد عليه بالقول: هذا كلام جميل لكني كسياسي لا استطيع ان اتعامل مع القوى الكامنة ولا ان اتفاوض مع الفكرة. ومع غياب مفهوم الدولة المعاصرة ودورها غاب بالضرورة والقسر مفهوم المواطنة.

فأول ما تعنيه المواطنة في التعريفات الحديثة نقل الولاء من القبيلة للدولة، والدخول في عقد طوعي اجتماعي وسياسي بحيث يقوم المواطن بواجبات ويحصل مقابلها على حقوق تنص عليها القوانين الدولية واحيانا القوانين المحلية وأهمها حق التعبير والعمل والاعتقاد والسفر والامان من الحاجة والخوف، ويكون لذلك المواطن بنص القانون الحق في تقاسم السلطة والثروة بدون أية قيود. فهل حصل هذا او بعضه في بعض أقطارالعالم العربي؟

ان الوظيفة الاساسية للسلطات العمومية، كما يعتقد توكفيل ودوجوفنال، هي انماء الثقة المتبادلة الموجودة داخل الكيان الاجتماعي والقيام بدور الربط، فالمشاركة السياسية لا تتحقق الا برعاية السلطة للربط والترابط التعاقديين بين الناس فهل يحصل شيء من هذا عندنا أم ان بعض أنظمتنا لم ترث من الاستعمار الا أوزار سياسة فرّق تسد ؟

وبعد هذه الاخطاء والاسئلة كلها يأتي سؤال الاسئلة عن الشرعية السياسية وغيابها، واذا كان المجتمع المدني العربي سينتظر وجود أنظمة شرعية قبل ان يبدأ عمله فقد لا نصل ابدا الى دولة المواطنة العصرية ابدا لذا لا بأس من تخفيف سقف الطموحات على هذا الصعيد ولابد من عبور هذا الطريق بنظريات أكثر رحابة عن شرعية الامر الواقع كنظرية (تالكوت بارسونز) الذي يضفي الشرعية على كافة انواع السلطات، فمجرد امساك فئة ما بمفاتيح القوة والمال ومؤسسات الامر والنهي في اي مجتمع يضفي عليها شرعية خاصة تزيد وتنقص حسب نجاحها في تسيير شؤون الناس.

ان السلطة في التحليل( البارسونزي) مثل العملات الورقية التي ترتفع قيمتها بالسوق استنادا الى قوة غطائها الذهبي وتهبط كلما نقص هذا الغطاء، ونقطة الالتقاء بين( دي جوفنال وروسو وبارسونز) اعتبار الاخير ان الغطاء الذهبي للشرعية السياسية هو ثقة الناس، ويشبه هذا المفكر الذي قد تفيدنا افكاره اكثر من افكار غيره في هذه المرحلة الثقة بين الحاكم والمحكوم بمبدا الائتمان المصرفي والاعتمادات البنكية، فصاحب الائتمان لا يدفع المبلغ كاملا انما يعد بدفعه حين الطلب وهذا بالضبط ما تفعله الحكومات بثقة الناس اذ تحتفظ بها كرصيد ثمين لا تسحب منه الا في حالة الطوارئ فتخيل الحجم المهول لقيمة سحوباتها من شرعيتها تلك الانظمة التي تعيش في ظل قانون طوارئ دائم.