عن الحقبة الأميركية.. شاء من شاء.. أو أبى من أبى..!

TT

على واشنطن أن تسعى لشرعيتها بطريقة تتوافق وطبيعتها ومجلس الأمن ليس المكان الوحيد في العالم الذي يمكنك الحصول منه على الشرعية.

لن يكون النقد الأساسي الذي سيوجه لسياسة بوش الخارجية في هذه الحملة الانتخابية، أنه قام بغزو العراق. فالمرشح المعادي للحرب، هاوارد دين، غادر حلبة المنافسة. أما المرشحان الديمقراطيان الباقيان فقد صوت كل منهما لصالح الحرب ولم يؤد الفشل في العثور على أسلحة الدمار الشامل وعجز الإدارة المدهش عن الدفاع عن نفسها أمام الاتهامات الظالمة بأنها خدعت الناس قبل الحرب، إلى تغيير موقف الناس المؤيد للحرب. وإذا كان هناك نقد يمكن أن يوجه لإدارة بوش، خلافا لما يعبر عن الكراهية الشخصية للرجل، فهو فشل الإدارة في تحقيق تأييد عالمي واسع للحرب ولغيرها من القضايا الكبيرة للسياسة الخارجية. مثل هذا النقد له مزايا عديدة ولكنها ليست تلك التي يرددها المعارضون. فالمشكلة ليست أن الإدارة تخطت قرار الأمم المتحدة العام الماضي، فالواقع أن فرنسا وروسيا هما اللتان انسحبتا عند إجازة القرار 1441. يضاف إلى ذلك أن الأوروبيين أنفسهم خاضوا الحرب في كوسوفو عام 1999 من دون تصريح من الأمم المتحدة. وليست المشكلة كذلك ان إدارة بوش خاضت الحرب منفردة، إلا إذا فسر المرء الانفرادية بأنها الفشل في كسب تأييد باريس وبرلين. وعلى كل حال فإنه لا يوجد ديمقراطي واحد يمكن أن يعارض إنفراد اميركا بفعل ما إذا فشلت جميع الوسائل الأخرى. وقد قال جون كيري الاسبوع الماضي، ان على الرئيس «الا يسمح لحلفائنا بتقييد أيادينا ومنعنا من عمل ما يجب علينا عمله». وبالنسبة للآذان الأوروبية فإن هذا ليس مختلفا عن «انفرادية» بوش التي ينتقدها كيري.

وعلى كل حال وقبل أن تكشف إدارة بوش عن افتقارها المشهود للبراعة في طمأنة أقرب حلفاء أميركا، فإن الإدارات الأخرى التي جاءت بعد نهاية الحرب الباردة ظلت تعاني من مضايقات موقف الهيمنة الذي وجدت أميركا نفسها فيه. وعندما كان بيل كلينتون ومادلين أولبرايت، أثناء التسعينات، يسميان أميركا، وبفخر لا يخفيانه، بالأمة التي لا يمكن الاستغناء عنها، فإن وزراء الخارجية الفرنسية، ومعهم رصافؤهم الروس والصينيون، كانوا يقولون إن هذا العالم الوحيد القطب الذين تسيطر عليها أميركا، ليس عادلا فحسب، بل محفوف بالمخاطر ايضا. وكان صامويل هنتينغتون، يحذر خلال سنوات كلينتون من «الغرور» و«النزعة الانفرادية» الأميركية. كما عبرت الشكاوى الأوروبية حول «الغرور» و«الابتزاز» الذي تعاملت به إدارة كلينتون قبل وأثناء وبعد حرب كوسوفو عام 1999، عن ضيق أصيل بهذه التركيبة الجديدة، وخاصة إنفلات الفعل الأميركي من أية رقابة أو سيطرة أوروبية.

المشكلة هي التالية: بالنسبة للذهن الليبرالي هناك خطأ جوهري في كل عالم يقوم على قطبية واحدة، بصرف النظر عما إذا كانت القوة العظمى واقعة تحت قيادة بوش أو جون كيري. وكما يطلب الباحث ورجل الدولة البريطاني روبرت كوبر، في كتابه الجديد «تدمير الأمم»: «نظمنا المحلية مصممة على اساس فرض بعض القيود على السلطة.... نحن نقدر التعددية وحكم القانون على الصعيد المحلي، ومن الصعب على المجتمعات الديمقراطية، بما في ذلك الولايات المتحدة، التهرب من فكرة ان هذه النظم مطلوبة على الصعيد الدولي ايضا».

ترى، هل تستخدم الولايات المتحدة قوتها لخدمة هذه المصالح الضيقة على حساب الآخرين؟

هذا على وجه التحديد ما يثير قلق حتى اصدقاء الولايات المتحدة والمعجبين بها في هذه الايام. ويعتقد كوبر ان صعوبة الاحتكار الاميركي للقوة في عالم اليوم تكمن في كون هذا الاحتكار اميركيا وأنه يمارس، اذا دعت الضرورة، لخدمة مصالح الولايات المتحدة، وهذا في حد ذاته، كما يرى كوبر، لن ينظر إليه كونه ممارسة شرعية.

تساءل تشارلس كروثامر خلال حديث القاه بمعهد اميركان انتربرايز عن السبب وراء ضرورة ان تولي الولايات المتحدة اهتماما لشرعية تمنح من جانب دول اخرى. انه سؤال جيد. فقد سخرت كوندوليزا رايس خلال حملة عام 2000 الرئاسية من فكرة نسبت لإدارة الرئيس السابق بيل كلينتون تقول ان «تأييد دول او مؤسسات مثل الامم المتحدة امر جوهري لإضفاء الشرعية على استخدام القوة».

لكننا لسنا قليلي الاحساس كما كنا نتصور، فحتى ادارة الرئيس بوش شعرت بأنها مجبرة على السعي للحصول على مصادقة الدول الاوروبية العام الماضي وفي المكان الذي اصر في الاوروبيون على الحصول على تأييد ومصادقة مجلس الامن. ربما لم تكن الولايات المتحدة بحاجة الى تأييد فرنسا وألمانيا للحرب في العراق، لكنها شعرت بأنها في حاجة الى تأييد بريطانيا على الاقل. لماذا؟

لم يكن السبب هو الاعتقاد في ان وجود القوات البريطانية امر رئيسي لنجاح الغزو، وإنما كان السبب هو رغبة الولايات المتحدة في الحصول على غطاء الشرعية الذي كان متوفرا في احاديث ومواقف رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، وهي شرعية كان بوش والشعب الاميركي في امس الحاجة اليها. ليس ثمة جدال في ان ادارة بوش عانت من فشلها في الحصول على تأييد اوروبا للحرب، وبالتالي الحصول على شرعية دولية اوسع لغزو العراق، كما عانت ادارة بوش داخليا بقدر معاناتها الخارجية.

ثمة اسباب وجيهة وراء حاجة الولايات المتحدة لتأييد اوروبا، وهي اسباب لا علاقة لها بالمجتمع الدولي او قوة مجلس الامن و«نسيج النظام الدولي» الذي لا وجود له رغم حديث البعض عنه. السبب الاساسي يتعلق الايديولوجية الليبرالية الديمقراطية للولايات المتحدة. دور اوروبا كان مهما لأن الولايات المتحدة تظل تمثل قبلة العالم الليبرالي الديمقراطي، فضلا عن ان السياسة الخارجية للولايات المتحدة تظل باستمرار مستمدة من الليبرالية الاميركية سعيا لخلق انسجام اكبر مع اوروبا اذا كان لدى الاوروبيين رغبة وقدرة على جعل هذا الانسجام واقعا.

السبيل البديل ربما من الصعب على الولايات المتحدة الاستمرار فيه، ذلك انه لا يعرف ما اذا ستستطيع العمل على نحو فاعل من دون التأييد والدعم الاخلاقي للعالم الديمقراطي. فغالبية المؤيدين للنهج الجماعي بدلا عن النهج الأحادي الجانب للولايات المتحدة يركزون على الحاجة الى التعاون المادي مع الدولي الحليفة، او كما قال كيري «تخفيف العبء على قواتنا». إلا ان هذا الشعور القائم على المصلحة الذاتية ليس من المتوقع ان يكون ملهما للآخرين كي يقدموا المساعدة المطلوبة، كما انه لا يعتبر سببا مهما في حاجتنا الى حلفاء.

وفي نهاية الامر، فإن حاجة الولايات المتحدة للشرعية الدولية هي التي ستكون امرا حاسما في تحديد السبيل الذي ستسلكه الولايات المتحدة. ويبقى امر ما اذا ستستطيع الولايات المتحدة السير قدما لوحدها في هذا الطريق سؤالا مفتوحا. من الناحية العسكرية، تستطيع الولايات المتحدة السير لوحدها في هذا الطريق حتى في حال المشاركة الاوروبية الكاملة مثلما حدث في كوسوفو وحرب الخليج. إلا ان الامر المشكوك فيه هو مدى استمرار الرأي العام الاميركي في تأييد العمل العسكري والأعباء المترتبة على الاحتلال بعد انتهاء الحرب في ظل التهم بعدم الشرعية من جانب الدول الحليفة.

ان السعي من اجل «المصالح الوطنية» يبدو دائما مصيبا. ولكن في الواقع فإن فكرة ان الولايات المتحدة يمكنها تبني وجهة نظر محدودة مثل هذه تجاه «مصالحها الوطنية» كانت فكرة خاطئة دائما. لقد كانت للاميركيين «اهتمامات انسانية» قبل اختراع مثل هذا التعبير بقرنين، بالاضافة الى المصالح الاخلاقية والسياسية والايديولوجية التي كان الاميركيون على استعداد دائم للقتال من اجلها. وفي ما عدا ذلك فإن التعبير عن مثل وجهة النظر «الواقعية» عن طريق قوة مسيطرة في فترة تاريخية احادية القطب، هو خطأ خطير في مجال السياسة الخارجية. فلا يمكن لدولة ذات سيطرة كونية ان تعلن للعالم ان ما يوجهها هو مفهومها «للمصالح الوطنية». وهو بالضبط ما يخشاه اقرب اصدقاء اميركا: ان الولايات المتحدة ستسيس قوتها الهائلة لمصلحتها الخاصة.

ولا بد من القول ان مأزق احادية القطب والشخصية الاميركية في حاجة الى تحديد اكثر اتساعا للمصالح الاميركية. فلا يمكن للولايات المتحدة الظهور بمظهر من يهتم بمصالحه الذاتية فقط، ولا التصرف وكأن مصالحها الوطنية هي ما يهم. فيجب على الولايات المتحدة التصرف بطريقة تفيد الانسانية، كما حاولت دائما التصرف في الماضي. ومن المؤكد ضرورة سعيها لافادة مثل هذا الجانب من الانسانية، الذي يشارك مبادئ اميركا الليبرالية. وحتى في ظروف الطوارئ، ولا سيما في مثل تلك الاوقات، فإن القوة العظمى الوحيدة في العالم في حاجة الى ان تظهر انها تستخدم قوتها بالنيابة عن مبادئها وكل من يشارك فيها، بمن في ذلك الحلفاء الديمقراطيين في اوروبا.

وباختصار، يجب على الولايات المتحدة ان تسعى لشرعيتها بطريقة تتوافق وطبيعتها، عن طريق الترويج لمبادئ الديمقراطية الليبرالية، وليس كوسيلة من اجل امن اكبر ولكن كغاية في حد ذاتها. ان مجلس الامن ليس المكان الوحيد في العالم الذي يمكن الحصول منه على الشرعية، كما يعلم الاوروبيون. يمكن للاميركيين تحقيق الشرعية عن طريق الترويج للديمقراطية والاصلاحات الليبرالية في مناطق مثل العراق وافغانستان وهايتي وليس عن طريق التخلي عن مسؤوليتها، ولا سيما في اماكن تحتفظ فيها بقوتها. ان النجاح في مثل هذه الجهود سيمنح الولايات المتحدة وسيلة للشرعية حتى في اوروبا، لان الاوروبيين لا يمكنهم تجاهل، دائما، رؤيتهم لعالم اكثر انسانية وليبرالية وديمقراطية، حتى اذا كانوا هذه الايام اكثر اهتماما برؤيتهم لنظام قانوني دولي اكثر قوة واكثر اهتماما بالقوة الاميركية المطلقة.

* زميل في صندوق كارنيغي للسلام الدولي. وهذه المقالة معدة من خاتمة كتابه «عن الجنة والقوة: اميركا واوروبا في نظام عالمي جديد».

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»