أوروبا ومبادرة الشرق الأوسط الكبير: بين تجديد الناتو.. وتسويق خبرة هلسنكي

TT

يكتشف الناظر لمختلف المواقف الأوروبية الراهنة حيال مشروع «الشرق الأوسط الكبير»، مدى قناعة حكومات القارة القديمة بمحدودية فاعلية سياستها الخارجية في عالمنا العربي، إذا ما ابتعدت عن توجهات الولايات المتحدة الأمريكية. ولذلك عدد من المسببات، تأتي دروس الأزمة العراقية في مقدمتها، حيث عنى رفض المشاركة في الحرب ببساطة الاستبعاد من دوائر التأثير والنفوذ. والبادي من سلوك الحكومتين الألمانية والفرنسية كقطبي الموقف الرافض يظهر بجلاء عمومية الرغبة في العودة إلى السياقات المعهودة للعمل المشترك في داخل التحالف الغربي. في هذا الإطار جاء حديث وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر في السابع من الشهر المنصرم (فبراير) عن مبادرة أطلسية جديدة للشرق الأوسط عنونها مستخدماً مفاهيم السلام والاستقرار والديموقراطية ليشكل علامة انتقال نوعية.

مبدئياً لا يعثر من يطالع نص خطاب فيشر الذي ألقاه على هامش انعقاد مؤتمر الأمن السنوي في مدينة ميونخ، على فروق جوهرية بينه وبين النص المعلن لمشروع الشرق الأوسط الكبير. فكلاهما يشدد من جهة على التحول الديموقراطي وتنمية دول المنطقة بصورة شاملة ومن جهة أخرى على الدور المحوري للتحالف الغربي في تحقيق الاستقرار وتمكين الحكومات وقوى المجتمع المدني من إنجاز إصلاحات حقيقية.

لكن مغزى مبادرة الوزير الألماني وكذلك حالة الاستنفار في العواصم الأوروبية الكبرى قبل بدء سلسلة لقاءات القمة على مستوى الدول الصناعية الثماني والاتحاد الأوروبي والناتو في الصيف المقبل يكمن في ثلاثة أمور أخرى. أولاً, ترغب حكومات الاتحاد الأوروبي, وعلى الرغم من خلافاتها المستمرة حول مشروعية الحرب على العراق وتنوع مصالحها في الشرق الأوسط، في عدم المخاطرة بإضعاف الناتو استراتيجياً، بل تبدو الآن باحثة عن أدوار له خارج النطاق العملياتي التقليدي في أوروبا. وأحسب أن الإبقاء على آليات التنسيق العسكري والسياسي مع واشنطن يشكل قاسماً مشتركاً بين أوروبا القديمة والجديدة وضمانة للأمن في داخل القارة وعلى حدودها من وجهة نظر النخب السياسية، ليس فقط في لندن ووارسو بل أيضاً في برلين وباريس. يقتضي ذلك خاصة في ظل الإلحاح الأمريكي على مشاركة الناتو في العراق، اعتباراً من تاريخ نقل السيادة ورؤية الإدارة الأمريكية لدوره كمصدر للاستقرار في الشرق الأوسط، صياغة وجهة نظر أوروبية واضحة المعالم.

قدمت مبادرة فيشر هنا إجابة أولية اعتمدتها القمة الثلاثية الأخيرة بين بلير وشيراك وشرودر وتنبني على أساس الدمج بين ميكانزمات الشراكة الأورومتوسطية بسلاتها الأمنية - السياسية والاقتصادية والثقافية وبرامج الناتو المسماة «الشراكة من أجل السلام». وربما كان هدف القوى الأوروبية الرئيسية هو الاستيعاب الجزئي لدور الناتو القادم لا محالة في سياق سياستها هي تجاه منطقة الشرق الأوسط أو على الأقل التأثير في صياغة وجهته وأولوياته من خلال مؤسسات طورتها خبرة حوارها مع الدول المنطقة العربية وغير العربية.

ثانياً، تخشى أوروبا من عسكرة العلاقات الدولية في المنطقة وفقدان الأدوات التوافقية - التفاوضية لأهميتها النسبية عند التعاطي مع أزماتها المتتالية التي تحددها الدبلوماسية الأوروبية في الصراع العربي- الإسرائيلي ومعضلة التحول الديموقراطي والإرهاب. في هذا الصدد يأتي اقتراح فيشر تأسيس كيان إقليمي شبيه بمنظمة الأمن والتعاون الأوروبية، وإن لم يسم الأخيرة في نص مبادرته، بمثابة محاولة لتسويق خبرة أوروبية هامة عربياً. والتصور المطروح يستند إلى خطة زمنية ذات مرحلتين كبيرتين: مرحلة تعاون وتنسيق بين دول الناتو والاتحاد الأوروبي من جهة والدول المتوسطية بما فيها سورية والأردن وإسرائيل والفلسطينيون من جهة أخرى، تكون مفرداتها الأمن ومكافحة الإرهاب الجهادي (على حد تعبير فيشر) والإصلاح السياسي والمجتمعي الشامل. وتعد الولايات المتحدة وأوروبا الدول الجادة في تحقيق الأهداف السابقة بمساعدات عسكرية وترتيبات أمنية ومناطق تجارة حرة وفتح للأسواق أمام منتجاتها. ثم مرحلة ثانية جوهرها هو «إعلان لمستقبل مشترك» تتبلور معالمه من خلال إدراج بقية دول الجامعة العربية وإيران في إطار التعاون الأطلنطي- الأوروبي-المتوسطي ومن خلال استحداث ميكانزمات متخطية لحدود الدول القومية لتحقيق الأمن والاستقرار والديموقراطية. والمقصود، كما ظهر في تصريحات لعدد من المسؤولين الأوروبيين كان من بينهم المفوض السامي للسياسة الأوروبية المشتركة خافيير سولانا وكريس باتن المسؤول عن الشرق الأوسط، هو تدشين منظمة شرق أوسطية على غرار نموذج هلسنكي فاعلة في نطاق جغرافي يقترب كثيراً من مفهوم الشرق الأوسط الكبير (وإن أشار إليه فيشر بالشرق الأوسط الأوسع). يسعى الاتحاد الأوروبي إذن إلى تسويق تجربة القارة في تحقيق تحول سلمي لنظم ديموقراطية في شرقها ووسطها وإنهاء الحرب الباردة من خلال أدوات توافقية - تفاوضية على نحو يجعل منها نموذجا يحتذى، ويعيد، وهذا في ظني مربط الفرس, بمنطق الخبرات المتشابهة، التأكيد على القرب الحضاري بين أوروبا والشرق الأوسط في مقابل البعد الأمريكي عنه. تكرار فيشر أكثر من مرة في خطابه السابق الإشارة إليه لمقولات أن الاتحاد يرفض الوصاية والمنطق الأبوي في التعامل مع الشرق ويرغب في تشجيع مبادرات الإصلاح المحلية والإقليمية وأن مشروطية أوروبا هي بالأساس إيجابية لا تتضمن فرض العقوبات عند الإخفاق لا يمكن أن يفهم إلا في هذا السياق.

ثالثاً, شهدت أروقة الحوار الأورومتوسطي في السنوات القليلة الماضية العديد من جولات التقييم فيما يتعلق بواقع عملية برشلونة ومستقبلها ولم تكن أغلبية الأطراف الأوروبية راضية أو على استعداد للاستمرار في ممارسات أضحت غير مجدية. اتجه جل الانتقادات إلى السلة الأمنية - السياسية والكيفية التي تؤثر بها بالسلب على الأصعدة التعاونية الأخرى. فظواهر مثل الفساد وغياب الشرعية والشفافية في جنوب المتوسط رتبت من وجهة النظر الأوروبية عدم فاعلية التعاون الاقتصادي والحوار الثقافي. وقاد البحث عن بدائل خاصة في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر 2001 الأوروبيين تدريجياً إلى التفكير في استراتيجيات وآليات مساعدة التحول الديموقراطي. وشكل ذلك تضييقا وتحديا صارخا لمنطقة محرمات واسعة ومألوفة في الإدراك الأوروبي - على خلاف الأمريكي - تقوم على خصوصية الديموقراطية وارتباط تجاربها بالغرب وحتمية عزوف دول القارة عن نشرها عالمياً. ولم تكن سلاسل الحوار مع إيران والعالم العربي وتحفظ ممثلي الحكومات الأوروبية عند الحديث عن حقوق الإنسان في العقود الماضية إلا تعبيرا عن مثل هذه النظرة النمطية (العنصرية في بعض الأحيان حتى وإن تخفت خلف قيم الإنسانية والنسبية الثقافية). تعطي مبادرة فيشر للنقلة النوعية نحو دعم الديموقراطية شكلا محددا وتحسم في إطار خطاب دبلوماسي جريء تردد بعض الساسة الأوروبيين. فالشرق الأوسط قد أضحى أخطر من أن يترك بمعزل عن تحولات منظومات القيم العالمية بداعي الاستثناء الثقافي أو منطق التميز الحضاري.

ربما كانت هذه هي محاور فهم مبادرة فيشر الجديدة والتأييد الأوروبي, بل والأمريكي السريع لها. هناك بالفعل خطاب عالمي متجه نحو منطقتنا مفرداته الديموقراطية والإصلاح والتنمية، لم يعد أمريكياً وحسب. وحسناً تفعل النخب الحكومية وغير الحكومية العربية بصياغة خطابات موازية تتحدث نفس اللغة وتستخدم ذات المفردات حتى عندما تؤكد على الجوانب المتجاهلة أو المهمشة في الرؤى الغربية، القضية الفلسطينية على سبيل المثال. لا بديل عن خطاب إصلاحي عربي إن أردنا الانتقال من الجمود الراهن إلى مرحلة الفعل والمشاركة في صياغة سيناريوهات الشرق الأوسط في السنوات القادمة.

* مدرس بقسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة