العراق ومشروع الدستور.. نجاحات ومحاذير..!

TT

مع أن المذابح التي نفذها الإرهابيون بكربلاء وبغداد يوم عاشوراء احتلت العناوين العريضة للأخبار، إلا أن القضية ذات الأهمية الحقيقية في العراق هي إجازة مسودة الدستور ووثيقة الحريات التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ المنطقة. وستطرح هذه المسودة الدستورية، التي تضع حدا لعقود من الطغيان، للنقاش على مستوى البلاد قبل فترة كافية من انتخابات الجمعية التأسيسية التي ستصوغ الدستور الدائم. وحتى قبل أسبوع واحد كان بعض الناس يعتقدون أن مجلس الحكم، أي المجلس الذي يمثل سيادة العراق، لن يتمكن من الإتفاق على نص موحد للدستور.

الوثيقة التي وقعت الأسبوع الماضي مثيرة للاهتمام لعدة أسباب.

أولا، الوثيقة تمثل نسيجا من الحلول الوسط والمساومات في منطقة تعتبر فيها عملية الأخذ والعطاء مظهرا للضعف إن لم تكن نوعا من العار. ففي سياسة الشرق الأوسط الرجالية يفرض الزعيم«القوي» إرادته على الجميع بالقوة، غير معترفٍ حتى لمعارضيه الأكثر لطفا ولو بزاوية ضيقة. وفي عالم يحصل فيه المنتصر على كل شيء، فإن أولئك الذين يخسرون الرهان تكون قصارى أحلامهم أن تنجو رقابهم من السيف، وأجسادهم من السجن أو المنفى.

ومما يوجب الثناء على وصول العراقيين إلى صياغة هذه المسودة أن القضايا التي وصلوا فيها إلى حلول وسطى كانت قضايا جوهرية وبالغة الأهمية. وأكثر هذه القضايا إثارة للنقاش كانت مكانة الإسلام في مستقبل العراق. وقد عارض بعض الأعضاء الذين ينادون بأن الدولة ملك لجميع مواطنيها أي ذكر للإسلام باعتباره دينا للدولة. ولكن آخرين كانوا ينادون بقيام دولة إسلامية، يصبح فيها غير المسملين، في حقيقة الأمر، مواطنين من الدرجة الثانية.

وكحل وسط لهذا الخلاف نص على الإسلام دينا للدولة، ولكنه لن يستخدم كوسيلة لحرمان غير المسلمين من تولي المناصب العامة. كما أن الدولة لن تتدخل في الشؤون الدينية الشخصية للمواطنين، كما هو الحال في بعض الدول المجاورة وخاصة إيران. وقد عبر بعض العلمانيين البارزين عن خيبة أملهم لهذا الحل الوسط. والحقيقة هي أن إعطاء الدولة حق الإشراف على الشؤون الإسلامية سيكون أثره إيجابيا على الديمقراطية العراقية. ففي ظل دولة علمانية مكتملة العلمانية سيكون الدين محتكرا لدى أكثر الفئات تطرفا والتي يمكن أن تستغله لإقامة دولة داخل الدولة. ودعونا نذكر هنا مثالين:

أولا: ستقصد المراكز الدينية في النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء مجاميع هائلة من الشيعة في كل العالم والذين يقدر عددهم بـ 200 مليون. وترتبط بهذه الأماكن آلاف المؤسسات الوقفية سواء كانت أملاكا حرة أو مزارع أو وحدات صناعية أو أعمالا تجارية. وإذا سمح لهذه المؤسسات بالإفلات من رقابة الدولة فإنها يمكن أن تتحول إلى أمبراطوريات صغيرة يسيطر عليها الملالي الذين يمكن ألا يتمكنوا من مقاومة الإغراء بخلق سلطة موازية، مما يضعف الدولة الديمقراطية. وفي ظل الدستور الحالي فإن هذه الأماكن الدينية والمؤسسات المرتبطة بها، والتي تصل قيمتها إلى بلايين الدولارات، يمكن إدارتها من قبل وزارة معينة في جو من الشفافية والانفتاح.

المثال الثاني هو كيفية تدريس الإسلام في العراق الديمقراطي الجديد. فإذا نأت الدولة بنفسها عن هذه العملية، تمسكا بعلمانيتها، فإنها ستترك فراغا كبيرا خاليا تماما للمجموعات ذات الآيديولوجيات المتطرفة. وقد حدث هذا في تركيا وباكستان في السنوات الأخيرة، حيث احتكرت المدارس الإسلامية الخاصة تدريس الدين تحت إشراف جماعات متطرفة.

وفي الوقت الذي يعبر فيه الاتحاد الأوروبي عن أهمية حماية «ثقافته المسيحية» في دستوره المقترح، فليس من حق أحد أن يلوم العراق على اعترافه بالإرث الديني لـ 95% من شعبه.

ويرتبط بقضية الإسلام كدين للدولة الدور الذي يمكن أن تلعبه الشريعة في النظام القانوني العراقي. فقد كان بعض أعضاء المجلس يرغبون في أن تعلن الشريعة مصدرا وحيدا للتشريع، ولم يكن ذلك موقفا جادا، بل كان افتتاحا تفاوضيا من قبل القوى التي استخدمت الإسلام سلاحا ضد النظام البعثي وآيديولوجيته الاشتراكية المزعومة. الحل الوسط جعل الشريعة مصدرا من مصادر التشريع، وهذا حل مقبول لأنه يوجد في الشريعة الكثير الذي يعبر عن قرون من التقاليد والعادات والممارسات التي لا تناقض الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي كان العراق واحدا من أوائل الموقعين عليه.

يقدم مشروع الدستور حلا وسطا آخر. إنه يسمح للإقليمين الكرديين بالاستمتاع بالحكم الذاتي الذي كان سائدا هناك منذ 1991. وكان هدف الحل الوسط تفادي عراك كان يمكن أن يشب بين أولئك الذين يريدون نظاما فيدراليا، على المثال الألماني، وبين أولئك الذين يعتقدون أن الفيدرالية غير قابلة للتطبيق في العراق.

هذا الكاتب يؤمن بهذا الرأي الأخير. فالفيدرالية تطبق عندما تتوحد أثنتان أو أكثر من الدول القائمة، فتكون دولة واحدة. وهذا لا ينطبق على العراق الذي ظهر إلى الوجود كدولة موحدة منذ البداية. ويحتاج العراق إلى دولة مركزية قوية لتوزع الموارد النفطية والمائية للبلاد. ومع ذلك فإنه ربما يكون من المستحيل أن نعيد فرض مركزية خانقة من جديد. وليس من المتوقع أن يقبل الأكراد الذين تمتعوا بالحكم الذاتي خلال الـ 13 سنة الماضية، نظاما تُتخذ فيه كل القرارات المهمة في بغداد. ولذلك يصبح من اللازم إعطاء الأكراد أكبر قدر ممكن من الفيدرالية في العراق الجديد.

هناك جوانب من الدستور المقترح يصعب الاتفاق معها. فعلى سبيل المثال وجود رئيس للجمهورية في نفس الوقت الذي يوجد فيه رئيس للوزراء ربما يشيع نزاعا دائما على أعلى مستوى في الدولة. ويمكن أن يصبح الوضع اكثر تعقيدا لأن الدستور يشير إلى تعيين نائبين للرئيس، ربما لتمثيل الأقليات القومية، والدينية، مما يشجع الطائفية في أعلى مستوى للدولة. ولا يمكن للدستور أن يدعو «للعروقة» في نفس الوقت الذي يشجع الإنقسامات الإثنية والدينية.

ولا يساعد كثيرا تحديد نسبة 25% في البرلمان و40% في أجهزة الدولة، للنساء. وإذا وضعنا في الاعتبار الكوتات المخصصة للأقليات الدينية والإثنية فإن هذه الكوتات المخصصة للنساء يمكن أن تعرقل مهمة خلق خدمة مدنية ممتازة من أكفأ العناصر العراقية.

مساعدة النساء على لعب دور أكبر في عملية صنع القرار يمكن ضمانها بصورة افضل بواسطة الأحزاب السياسية وعن طريق الوزراء وعلى أسس غير رسمية. كما يمكن تعيين عدد أكبر من النساء في مناصب مهمة مثل حكام الإقاليم والسفارات وفي إدارة المؤسسات الحكومية الكبيرة. ولا نرى داعيا لتوزيع « الصدقات» الدستورية، إذا جاز لنا القول.

وقد خطا مجلس الحكم خطوة أكثر أهمية في اتجاه إزالة التمييز ضد النساء بإلغائه قانون «الهوية والأحوال الشخصية»، فقد صارت النساء تحت هذا القانون أدنى درجة من الرجال، وعوملن في كثير من الأحيان كمواطنات من الدرجة الثانية.

إن وثيقة الحريات المقترحة تعد وثيقة ثورية في الشرق الأوسط، وهي تمثل أساسا معقولا لإنهاء التمييز على اساس الجنس. وعلى هذا الاساس فإن نجاح مجلس الحكم العراقي في الإتفاق على مسودة جيدة يعتبر تشجيعا لأولئك الذين يؤمنون بأن العراقيين قادرون على تعلم قوانين الديمقراطية إذا وجدوا الفرصة المناسبة. وهذه الحقيقة نفسها توضح ضرورة إجراء الانتخابات العامة باسرع فرصة ممكنة. ومن أخطاء التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة أنه يظل يجرجر رجليه حول هذه القضية لأسباب إدارية أو فنية.

وقد تمنى كثيرون، ومنهم كاتب هذه السطور، انتقالا أسرع للسلطة إلى شعب العراق، ولكن ذلك لم يحدث. وإذا وضعنا نصب أعيننا الصورة، بكل أبعادها، فإننا نجد أن العراق يسير في الاتجاه الصحيح.