المغرب بلادي واللغة الفرنسية أرضي

TT

اللغة الفرنسية هي لغتي الأم، أنا آسفة لقولها بطريقة قاسية، لقولها بدون احتياطات الاستعمال، لكن أقولها بدون نفاق، حتى وإن كنت أعرف أني سأصدم حماة هيكل اللغة العربية، وكل الذين يحملون همّ سقوط غرناطة وضياع الفردوس. أقولها ببساطة : أنا لست مذنبة ولا خائنة لقضية ما.

هل صُدِمتم؟ صُدِمتم كالتي تعتقد أنها تحمل لسان العرب لتدافع عنه بكل ما أوتيت من قوة ضد كل الغزوات اللغوية، وتجعله استثناء ثقافيا، بل أكثر، استثناء مقدسا. فهل صُدِمتم؟ ستحسون أكثر بالصدمة عندما تعرفون أن أول كلمة نطقت بها كانت باللغة الفرنسية. كنت أبلغ بالكاد بضعة شهور حين قلت «ماما» بالفرنسية، ولم أنطقها بالعربية. فهل ذلك خيانة أو اغتصاب لأن المغربية التي هي أنا نطقت أول كلماتها بالفرنسية.

القصة ستصبح أكثر تعقيدا بعد سنوات. في المدرسة الفرنسية بالرباط، كنت أستظهر دروس التاريخ مقتنعة بأن أجدادي كانوا فرنسيين. كنت أجهل كل شيء عن تاريخ ملوك المغرب وعهود حكمهم. أعترف بدون أية عقدة بلاثقافتي.

في الثانوي كانت العربية تُدَرَّس ثلاث أو أربع ساعات، وكان يُطلَق على حصتها «اللغة الأجنبية»، لكن هل كانت العربية بالفعل بالنسبة لي لغة أجنبية؟ هل العربية ليست لغتي؟ بلى كانت كذلك عاطفيا ووجدانيا. جدتي التي أحببتها من كل الأعماق لم تكن تتكلم إلا العربية. العربية التي تعبر في نظري على نبرات الحب، حب هذه الجدة التي رافقني حنانها حتى وفاتها.

فهل أنا مذنبة لأني أفكر بالفرنسية؟، وأحلم بالفرنسية؟ وأتوجه إلى الله بالفرنسية؟. لم أحس أبدا أني أرتكب ذنبا لأني وجدت الفرنكفونية جزءا من حياتي، ربما يتعلق الأمر بإرث غنيمة حرب كما كتب ذلك كاتب ياسين. المغرب بلادي كما أن الفرنسية هي أرض سعادتي وشقائي.

لكن في بلاد كبلادي، حيث جعل رهان ما من اللغة العربية في أسلاك التعليم قضية سيادة، وحيث يُنظَر إلى الفرنسية كلغة محتل، تصبح الأشياء أكثر تعقيدا خاصة عندما يتعلق الأمر بامرأة اختارت التعامل بلغة المحتل. كلمة هوية لم تعنِ قط أي شيء بالنسبة لي. فوالدي «عربي» وأمي أمازيغية، ولي أصول أندلسية، هذا المزيج يسري في دمي، وهذا ما يجعلني أحس بأنني في كل مكان.

في الثانوية الفرنسية بالرباط، وفي حقبة لم تكن كلمة «تسامح» شائعة كما كان الأمر في مدينة الصويرة، كانت الدروس تدعو إلى الكونية وإلى الانفتاح. وتعلمت أن أتعلم وأن أكون فضولية أكثر وألا أنطوي على نفسي وعلى هويتي. كنت أدعى «فتاة البعثة»، ألصقوا بي طابعا في بيئة كانت تبحث بدون توقف عن بوصلتها، بنت من أنتِ؟ ومن هو أخوك؟، وأسئلة أخرى تنفي وتمحو كل هوية للمرأة. لكن «فتاة البعثة» التي هي أنا وكما كانوا يقولون لم تكن تحس بأنها غريبة في بلد لم تِردْ أبدا أن تغادره. لم أدِرْ ظهري للغة العربية. الإحساس بالإقصاء والتهميش والتعطش إلى التعلم، كل ذلك دفعني إلى مواجهة وتحد واستدراك ما عشته من نقصان.

لا أعتقد أني أخطأت في دخولي الثانوية الفرنسية، لقد ورثت بعض القيم وطريقة في الوجود: أي أن أقول ما أفكر فيه، وأن أكون مستقيمة في حياتي، أن أطالب بحقوقي لأن لا شيء يُعطى وكل شيء يؤخذ، ألا أخاف من كوني امرأة حرة لأن الحرية لا ثمن لها.

هل أنا إذن غير مثقفة أو شوفينية أو كائن تائه بدون هوية؟ إذا كان التعبير بالفرنسية مرض، إذن نعم فأنا مريضة، بل أكثر من ذلك فمرضي خطير جدا. لكن عفوا فهويتي مثبتة على بطاقة هويتي الوطنية وهذا يكفيني. التمسك بالهوية يخيفني دائما لأنه في الغالب يكون وراء انزياحات التاريخ، ولا يمكنني في كل الأحوال أن أتبنى منطق الدفاع عن الهوية. الكونية تغريني وتحرك وجداني أكثر.

أنا في الوقت ذاته امرأة، فرنكوفونية وحاملة لجذور عربية وأمازيغية في بلاد تنادي بالعروبة أكثر من العربية. القوميون يخيفونني في الغالب، وتلك قضية ثقافية ربما، فأنا كامرأة فرنكوفونية، ورثت العروبة من أبي والأمازيغية من أمي، لا أبحث عن هوية ولا عن وضع ما. ولست أعيش كنوع من الأجناس في طريقه إلى الانقراض في بلاد اختارت أن تعرب تعليمها فأنتجت بالتالي أجيالا من المغاربة لا تتقن لا العربية ولا الفرنسية، لكن في أمسيات التعب الكبير وفي الليالي المسودة بالشك ينتابني الإحساس بكوني أقلية لأني امرأة وفرنكوفونية. في هذه الأمسيات ألجأ إلى الكتاب المفضلين لدي الذين جعلوا من الفرنسية أرضهم مثل كاتب ياسين وميلان كانديرا وإديس الشرايبي، حتى يتبدد الشك في سحر الكلمات.

*صحافية وكاتبة مغربية باللغة الفرنسية