حكواتي بالإبر

TT

العام 2000 منح الصيني غاو كسينغ جيان، جائزة نوبل للآداب بعدما كان قد نفى نفسه الى فرنسا العام 1987. وكالعادة اعطيت المسألة اعتبارات سياسية. وقال بعض النقاد انذاك ان اعمال غاو عادية او دون ذلك. ولم اجد في نفسي حماساً لقراءة شيء منه، خصوصاً ان اعماله المترجمة كانت قليلة. ومنذ اشهر بدأت بتردد شديد في قراءة كتاباته النقدية وقصصه القصيرة. وشعرت انني أحلق على اجنحة الفراشات في «وادي الورود»، ذلك السهل اللامتناهي من الورد الجوري الارجواني، في وسط بلغاريا. كنت ابحث في كتابات غاو عن مناخ صيني غير مألوف في الأدب الغربي. عن كاتب مولود في الشرق البعيد، الواقع في آخر الشرق، وقد رأى نفسه بين عالمين، او اكثر. العالم الصيني الاسطوري الامبراطوري القديم، والعالم الشيوعي الفائر والغاضب والباحث ابداً عن الاستمرارية في المزيد من الضحايا. ثم اخيراً العالم المختلط، الذي سمح للصينيين بالاطلالة على فكرة الحرية من بقايا القضبان الماضية.

هذا ما كنت اتوقعه. وهذا ما عثرت عليه. يكتب غاو مثل جميع الادباء الانتقاليين في اميركا اللاتينية واوروبا الشرقية، الذين وقفوا يتأملون من بعيد، عالمين مختلفين: واحد يخرجون منه، او يخرج منهم عنوة، وواحد مجهول وغامض، يدلفون اليه، طوعاً وسريعاً ويعود غاو، باستمرار، الى عالمه الاول، يبحث عنه في الشوارع التي كانت لها اسماء واصبح لها ارقام. في البحيرات التي جفت وتحولت الى ساحات عامة. تحت الجسور العتيقة التي دمرت وصارت طرقاً سريعة. يبحر في ذكرياته مثل شراع نهري هادئ ورطب. وفي الابحار يستذكر كيف كانت الضفاف وعبثاً يمد اذنيه بحثاً عن الالحان التي كانت تملأ الوديان. لقد حلت المصانع محل الشدو. والنهر اصبح وحيداً ينساب بلا مرافقة عازفة او شعراء يكتبون على ضفتيه اشعار المغيب وحكايات السفر.

يكتب غاو مثل رسامي التشكيل والتجريد، ولكن بألوان تقليدية وخفر حقيقي. ويترك للقلم ان يجره كيفما اتفق، حتى تشعر انك ضعت في غابة وان الكاتب قفز الى السهو وتاه عند المفترقات والفقرات. لكنه لا يلبث ان يظهر فجأة من بين الاشجار، ومعه مصباحه. واحياناً معه قيثارته ايضاً. ودائماً معه صور من الصين، تلك المجهولة الكبرى التي ظلت طوال قرون خلف سورها وسباتها وغموضها، يكتب غاو من دون ثأريات. يمر بالثورة الثقافية المرعبة كأنه يمر بباب نجار لاستعارة قطعة صغيرة من الخشب. وفي قصته الجميلة «عن شراء صنارة صيد سمك لجديَّ» يعرض مراحل الاجيال الصينية في هدوء وشاعرية. ويرفع حدة التجريد والتشكيل حتى لا نعود نعرف في اي مرحلة هو وفي اي زمن قد تركنا. وفجأة يقفز الى الخاتمة، سيداً من اسياد العقدة القصصية وحكواتياً اقل تفاصيل من حكايات غارسيا ماركيز واكثر مباشرة منه. واكثر دعة. صنائعي ماهر يخدعك حتى تكاد تشعر انه مبتدئ مغامر. فاذا سهولته في نهاية الامر، هي نكهته ولكنته وخاصيته.