قصة جندي مع تشكيل القيم ..!

TT

كان عام 1968 لا يشبه أي عام آخر عرفته. كنت في الرابعة والعشرين من عمري، ضابطا جديدا في البحرية، ضمن مجموعة متجهة الى خليج تونكين. أتذكر اللحظات الكسولة التي كنت أقف فيها على ظهر المدمرة الأميركية «غريدلي»، في اماكن مختلفة وأنا أحدق في البحر، وأستمتع بمشهد غروب الشمس وشروقها على الجسر. وفي ما بعد ظهر يوم 26 فبراير (شباط)، واثر مغادرة ميدواي آيلاند، جابهني واقع فيتنام، وجاءني الضابط المسؤول في غريدلي وسألني عما اذا كان لدي صديق اسمه بيرشنغ، وقد عرفت مباشرة سبب سؤاله.

سعيت جاهدا من أجل أن أكبت بكائي. ولم يتعين علي أن اقرأ البرقية. فقد علمت ان ديك بيرشنغ، صديق طفولتي وفترة دراستي الجامعية، مات. ولأيام عدة في المحيط الهادي غير المأهول لم أكن قادرا على أن أتحمل حقيقة أنني لن اراه ثانية. كانت خسارة شخص لا يمكن تعويضه، خسارة البراءة، وقوة الارادة والتحدي الذي يتمتع به الشباب وهم يتوجهون الى الحرب.

وبعد فيتنام مباشرة علمنا أن السناتور يوجين مكارثي ومجموعة من طلاب الكلية الذين عاشوا مصاعب الحياة هزوا أسس العالم السياسي في الانتخابات التمهيدية في نيو هامبشاير، موجهين رسالة الى الرئيس ليندون جونسون تفيد بأنه لم يعد بوسعه أن يصبح رئيسا بعد ذلك اليوم. وبعد أسابيع سمعنا نبأ اغتيال القس الدكتور مارتن لوثر كينغ بينما كان على رأس حملة من أجل تحقيق العدالة في أميركا. وعرفنا أن المدن في مختلف أنحاء البلاد قد اندلعت فيها أعمال الشغب وان الكثير من مناطق واشنطن مشتعلة. كانت هناك حربٌ حولَنا وحربٌ داخل البلاد.

وبعد أشهر عدة من أعمال البحث والانقاذ في خليج تونكين عادت السفينة الى كاليفورنيا عندما التقط الراديو نهاية خطاب فوز روبرت كنيدي، عمت الفوضى وأطلق الرصاص في المطبخ. وقد رست سفينتنا في الصباح الباكر يوم السادس من يونيو (حزيران) عام 1968 وقد مات روبرت كنيدي في ذلك اليوم.

قضيت نهاية أسبوع يائسة في لونغ بيتش ملتصقا بجهاز التلفزيون. وكان من الغريب ان يغادر المرء مكان عنف ليصل الى العنف في وطنه، وهو العنف الذي هز احساسنا بنظام الأشياء.

وفي نهاية الصيف اجرينا تدريبا سريعا على القوارب في كولورادو بولاية كاليفورنيا، حيث عشنا وسط هدير واصوات الطائرات الحربية التي كانت تقلع من القاعدة البحرية التابعة لسلاح الجو، فضلا عن اصوات وحركة الناقلات المرابطة في المرفأ واصوات افراد مشاة البحرية الذين كانوا يتلقون تدريبا اساسيا هناك. فقد شاهدنا الاضطراب الحادث آنذاك في البلاد. وما يمكن قوله هنا انني كنت خلال تلك الفترة مشاهدا ومشاركا على حد سواء وتعرضت معتقداتي الى تحديات خلال تلك الفترة الصعبة.

سرعان ما وجدت نفسي في فيتنام مرة اخرى، فقد كنت في الخطوط الأمامية في حرب تختلف تماما عن تلك التي شاهدتها خلال جولة خدمتي الاولى. فالأعداء كانوا اشد قسوة هذه المرة، كما ان اراضي العدو كانت في كل مكان. نمت خلال تلك الفترة روابط وثيقة بين افراد اطقم الزوارق الحربية ورفقاء السلاح المتحدرين من مختلف قطاعات المجتمع الاميركي. فقد كان يحاربون فيما كان المسؤولون يجلسون في طمأنينة في واشنطن وهم يرسلون الى ميادين القتال المزيد من القوات.

ولكن هكذا كانت فيتنام، حيث اقتيد أبناء اميركا من شرفات المنازل وغرف المعيشة في بيوتهم الآمنة ليزج بهم خلال اسبوعين تقريبا في عالم نيران القناصة والكمائن والصواريخ والشراك القاتلة وأكياس القتلى البلاستيكية، التي تلف داخلها الجثث، والتفجيرات وانعدام النوم وحالة الارتباك التي صنعها عدو خفي عندما يطلق نيرانه علينا وفي احيان اخرى يمشي الى جنبنا وهو يبتسم.

وجدت تفهما فقط في التجربة المشتركة للذين كانت الحرب بالنسبة لهم امرا شخصيا، والذين فقدوا اصدقاءهم وشاهدوا اخوانهم يفقدون ايديهم وسيقانهم، اولئك الذين لم يروا حولهم سوى بشر يتقاتلون ويبكون ويموتون. وفي بعض الاحيان يبدو الامر وكأننا لوحدنا الذين نفهم بالفعل ان اخطاء فيتنام كانت اخطاء حرب وليست اخطاء مقاتلين.

عدت الى الولايات المتحدة وانتقلت الى العيش في مدينة نيويورك لاستكمال بقية فترة خدمتي بسلاح البحرية في بروكلين. كان جزء مني يرغب في نسيان تجربة فيتنام والمضي قدما في حياتي العادية، إلا ان جزئي الآخر كان يشعر بضرورة حكاية ما حدث، لكنني لم اكن اعرف كيفية حكايتها.

تلقيت في ابريل 1969 أنباء مشابهة بصورة غريبة لما حدث في فترة خدمتي الاولى في فيتنام. فقد قتل صديقي دون دروز في كمين نصب لزورق حربي في نهر دوونغ كيو. في تلك اللحظة ادركت انني لا يمكن ان انتظر. لم يكن هناك الكثير مما يمكن ان افكر فيه. في ذلك اليوم على وجه التحديد قررت ان اوظف كل طاقتي وقوتي لمهمة وضع نهاية للحرب التي شاركت فيها.

* مرشح الحزب الديمقراطي الأميركي الأوفر حظا لمنافسة الرئيس بوش في انتخابات الرئاسة القادمة

* خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»