تصحيح المناهج الدراسية في الغرب

TT

دار جدال ساخن في الاونة الاخيرة حول تعديل او تطوير المناهج الدراسية في الدول العربية والاسلامية حتى تتلاءم مع معطيات العصر الحديث من مفاهيم جديدة وذلك بهدف تحقيق تعريف افضل عن الآخر لمزيد من التعايش السلمي ولإرساء اسس سليمة للحوار مع الآخر وتحقيق حوار الحضارات. ونشرت هذه الدعوة الموجهة الى حكومات الدول العربية والاسلامية في وسائل الاعلام المختلفة في دول العالم الاسلامي وفي الدول الاوروبية والامريكية، سواء في وسائل الاعلام الورقية اي الصحف والمجلات، او الوسائل الاعلامية السمعية والبصرية من محطات اذاعية وقنوات تلفزيونية وفضائية، وكذلك من خلال شبكات الانترنت، فقد اصبح العالم مفتوحا ولم يعد من السهل اخفاء او تمويه الاخبار او الافكار. وقد استاء كثير من المفكرين العرب ومن المسؤولين عن التربية والتعليم في العالم الاسلامي من هذه المطالبة بتطوير المناهج الدراسية وخاصة فيما يتعلق بتدريس الدين الاسلامي والاصول الدينية الاساسية الثابتة في الفكر الاسلامي، واعتبروا ان تلك المطالبة انما هي نوع من التدخل السافر في اسلوب تربية اولادنا، وان ذلك يعتبر تدخلا في الشؤون الداخلية للدول العربية والاسلامية وانه ليس من حق اي دولة مهما كبرت او صغرت ان تتدخل في اسلوب تربية وتنشئة الاجيال القادمة من الشباب في اي دولة اخرى.

ولكن البعض الآخر من المفكرين المسلمين أخذ برأي الغرب وارتأى انه يمكن اعتبار تلك المطالبة بتعديل المناهج الدراسية في دول العالم الاسلامي انما هي دعوة للتطوير لمواكبة التقدم العلمي والاستفادة من معطيات الغرب من تقدم تكنولوجي واهتمام اكثر بالعلوم وبالمنهج العلمي وبالاسلوب البراجماتي العقلاني الذي يطبق المنطق في فهم كل الامور، وكانت حجتهم في ذلك التفكير قولهم: يجب ان نتحرر ولو قليلا من تغلغل الدين في كل مناحي حياتنا كما يقولون.

وفي واقع الامر ومن منطلق ان قضية المناهج الدراسية كانت محورا لعدة دراسات وبحوث اشرفت عليها في اطار دولي بتكليف من مكتب التربية الدولية في جنيف BIE ومنظمة اليونسكو في باريس، فمن هذا المنطلق استطيع ان ادلو بدلوي في هذه القضية الشائكة ذات الابعاد الاكبر مما يتصور الجميع. وبدون ادنى شك فإن اعداد المناهج الدراسية في كل دولة هو من اهم القضايا المحورية التي يجب ان توليها الدولة كل اهتمامها، خاصة في مرحلة المدارس الابتدائية لتربية اولادها منذ الصغر على المبادئ والافكار والايدلوجيات التي تود ان تشيّد عليها اسس الحكم والنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وقديما قال العرب في الامثال الحكيمة «العلم في الصغر كالنقش على الحجر» فكل ما تعلمناه في طفولتنا، سواء في الكتب المدرسية او من شرح وتفسير مدرسينا، ظل راسخا في اذهاننا على مر السنين، ومهما قرأنا وتعلمنا وحفظنا في مراحل العمر المختلفة يظل ما حفظناه في الطفولة هو الثابت الذي لا ينمحي ابدا من الذاكرة، والدليل على ذلك أن قصار السور القرآنية التي تعلمناها في الكتاب او في المدرسة الابتدائية هي اول ما يخطر على بالنا حين نقف للصلاة مهما تعمقنا بعد ذلك في حفظ كبرى السور القرآنية واجدناها ولكننا كثيرا ما ننسى بعض الآيات حين نقف للصلاة بينما نتذكر دون وعي او اي مجهود قصار السور التي تعلمناها في الصغر.

ومن هنا تنبع اهمية قضية المناهج الدراسية فهي السبيل الاول للتغيير، تغيير ثقافة وحضارة شعوب بأكملها وتلقينها افكارا ومفاهيم جديدة حسبما يتراءى للمسؤولين عن التربية والتعليم في كل دولة. ان المتعمق في دراسة الكتب المدرسية التي يتم تدريسها في المدارس الابتدائية في كل دولة يجد فيها بذور ثقافة وحضارة وسياسة تلك الدول التي تريد ان تغرسها في نفوس وعقول اطفالها. ومن الطبيعي والبديهي ان تركز دول العالم الاسلامي في مناهجها الدراسية على الاصول الثابتة في الفكر الاسلامي وليس على كتب مادة التربية الاسلامية فقط ولكن في كتب المطالعة والمحفوظات واللغة العربية والتاريخ ايضا، كذلك نجد ان هذه المناهج تهتم ايضا بتاريخ العرب وتاريخ المسلمين في العصور المختلفة وتذكر علماء العرب وتاريخهم وحضارتهم المزدهرة في الاندلس واختراعاتهم التي ارتكزت عليها النهضة الاوروبية الحديثة في بداية القرن الخامس عشر الميلادي. والمناهج الدراسية في دول العالم الاسلامي تعطي اهمية كبيرة لتاريخ وحضارات العالم، خاصة للحضارة الاوروبية الى جانب الحضارات الاخرى في العالم مثل الحضارات الهندية والصينية واليابانية والمكسيكية والافريقية. اما المتعمق في دراسة الكتب المدرسية التي يتم تدريسها في المدارس الاوروبية او الامريكية فإنه يصطدم بظاهرة اغفال الحضارات الاخرى في العالم، حيث يلاحظ من الوهلة الاولى ان هذه الكتب المدرسية الاوروبية والامريكية لا تعرض ما جرى من احداث تاريخية هامة في دول الجنوب وعلى الاخص في دول العالم الاسلامي او في افريقيا وآسيا ولا حتى في الصين واليابان والهند لأن الاهتمام كله منصب على اوروبا وتاريخها القديم والحديث وعلى امريكا منذ وطأت قدما كريستوف كولمبس ارضها، وكأنما كانت تلك القارة التي اطلقوا عليها القارة الجديدة، غير موجودة من قبل اكتشافهم لها رغم انها قارة قديمة مثلها مثل بقية القارات الاربع الاخرى وكانت موجودة وعامرة بالسكان من الهنود الحمر ولكنها جديدة بالنسبة للاوروبيين فقط، واغفال تاريخ الآخر والحضارات الاخرى مغالطة تاريخية كبيرة ونوع من انواع الانكفاء الجماعي على العرقية المعروف علميا بـ Ethnocentrism، كذلك نلاحظ ان المناهج الدراسية في الغرب لا تذكر عن العرب والمسلمين الا بعض الاحداث التاريخية التي تبرز تفوق اوروبا او انتصارها على المسلمين. ولعل اكثر الامثلة دلالة على ظاهرة الاغفال المتعمد هو اغفال المناهج الدراسية في الغرب الاعتراف بفضل الفلاسفة والعلماء العرب المسلمين على النهضة الاوروبية في القرن الخامس عشر الميلادي. وهذا اجحاف وانكار لحقيقة تاريخية ثابتة في المعاجم والموسوعات العلمية الكبرى في العالم، فلماذا لا يتم ادراجها في المناهج الدراسية في الغرب ولماذا لا نكاد نجد اسما واحدا من كل هذه الاسماء اللامعة البراقة التي اضاءت باكتشافاتها العلمية تاريخ ومسار الحياة على الكرة الارضية من امثال ابن رشد والبيروني وجابر بن حيان وابن المقفع والخوارزمي وابن سينا وابن النفيس والطوسي وابن الهيثم وغيرهم الذين يرجع اليهم كثير من الاختراعات والاكتشافات والنظريات التي ترتكز عليها العلوم الحديثة في العالم؟

فلماذا لا تكون الدعوة لتطوير المناهج الدراسية دعوة عالمية ذات شطرين فكما يطالب الغرب الدول العربية والاسلامية بتطوير مناهجها الدراسية يجب بالمقابل ان تطالب الدول العربية والاسلامية الدول الاوروبية والامريكية بتعديل مناهجها الدراسية وتصحيح المعلومات المغلوطة التي تحتويها هذه المناهج وادراج معلومات صحيحة ومناسبة وليست مشوهة ولا منفرة عن الاسلام وعن العرب والمسلمين؟ وأول هذه المطالبات هو الاعتراف بفضل العلماء العرب الذين أرسوا أسس العلوم الحديثة في العالم حتى يعرف التلاميذ الاوروبيون والامريكيون من هم العرب المسلمون وماذا قدموا للحضارة العالمية. فليس من المعقول ان نظل صامتين امام هذه المغالطات التاريخية الفجة ونحن نستهل القرن الواحد والعشرين ولا نستطيع ان نصحح التاريخ المليء بالاكاذيب والافتراءات، فإلى متى ستظل اختراعات واكتشافات علماء العرب والمسلمين تنسب الى العلماء الاوروبيين الذين استولوا على اختراعات العلماء العرب ونسبوها لانفسهم بعد سقوط دولة المسلمين في الاندلس بسقوط غرناطة فتم الاستيلاء على اسس العلوم مثلما تم الاستيلاء على الاراضي والبلاد.

ان جميع الكتب الدراسية الاوروبية والامريكية تنسب اكتشافات العلماء العرب الى غيرهم من العلماء الاوروبيين ، فعلى سبيل المثال وليس الحصر ما زال العالم كله يعتبر ان المخترع الانجليزي روجيه بيكون 1214 ـ 1294 هو صاحب المنهج العلمي التجريبي بينما في الحقيقة ان المنهج العلمي التجريبي قد استخدمه جابر بن حيان منذ القرن التاسع الميلادي كما جاء ذلك في مؤلفاته العديدة، كذلك اول من فكر في نظرية الجاذبية باسلوب علمي ليس اسحاق نيوتن 1642 ـ 1727 كما يدّعي الغرب، بل هو ابو الريحان البيروني الذي عاش ومات قبل ان يولد نيوتن بأكثر من ستمائة عام، وهناك نظرية اخرى تنسب الى نيوتن وهي نظرية القانون الاول للحركة اي الجسم في حالة سكون او في حالة منتظمة في خط مستقيم ما لم تجبره قوة خارجية على الحركة بينما اول من ذكر هذه النظرية وسجلها في كتاب هو العالم العربي ابن سينا كما جاء في كتابه (الشفاء) في القرن الحادي عشر اي قبل اسحاق نيوتن بستمائة عام، وهناك محمد بن موسى الخوارزمي الذي عاش في القرن العاشر الميلادي وهو مؤسس علم الجبر وأول من ابتكر المحددة التي طورها العالم الياباني سيكي كاو 1642 ـ 1708 ومع ذلك ما زال الاوروبيون ينسبون نظرية المحددة الى العالم الالماني ليبنز 1646 ـ 1716، وفي مجال الجبر ايضا ينسب اكتشاف الرموز الجبرية واشارات العمليات الحسابية للعالم الفرنسي فييت 1540 ـ 1603، بينما استعملها قبل ذلك بمائتي عام في الاندلس ودونها في كتابه كشف المحجوب في علم الغيوب العالم العربي ابو الحسن القلصاوي 1410 ـ 1486، وفي مجال الرياضيات هناك اكتشافات عربية كثيرة تنسب الى العلماء الاوروبيين بينما العلماء العرب هم الذين ارسوا قوانينها مثل حساب التكامل ونظرية مثلث قائم الزاوية التي طورها العالم العربي ثابت بن قرة في القرن العاشر الميلادي والتي لا تزال تنسب الى ليبنز الذي جاء بعده بأكثر من ستمائة وخمسين سنة، الى جانب نظريات ابو بكر الكرخي الذي عاش في القرن الحادي عشر الميلادي وهو مبتكر مثلث معاملات نظرية ذات الحدين وبالرغم من ان احد العلماء الصينيين ويدعى تشوشيكي اصدر كتابا بعنوان العناصر الاربعة عام 1303 ميلادية شرح فيه طريقة ايجاد معاملات نظرية ذات الحدين باستخدام مثلث المخترع العربي ابو بكر الكرخي وهذه شهادة تاريخية متعارف عليها في مجال علم الرياضيات في العالم اجمع، الا ان الاوروبيين لا يزالون يصرون على ان العالم الفرنسي باسكال 1623 ـ 1662 هو صاحب هذه النظرية.

وهناك اكتشافات ونظريات اخرى لا تعد ولا تحصى في شتى المجالات العلمية وفي الطب بالذات وهي تحتاج لمقال آخر مطول لتفنيدها، ولا يسع المجال هنا لذكر الاختراعات في مجال الجغرافيا والفلك والكيمياء التي يعرفها العرب جيدا وينكرها الغربيون حتى الآن ويدرسونها تحت اسماء مخترعين مزيفين، فإلى متى سنظل نتهاون في حقوقنا وحقوق العلماء العرب علينا ونتغاضى عن كل هذه المغالطات الجسيمة ولا نطالب بتصحيح المعلومات وباظهار الحقائق التاريخية الثابتة في الكتب والمخطوطات وكشف اكاذيب العلماء الاوروبيين الذين نسبوا لانفسهم اختراعات العلماء العرب المسلمين ومحوا اسماء العرب تماما وذلك حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي عندما بدأ بعض المستشرقين الاوروبيين يعترفون في كتاباتهم بفضل العرب المسلمين على النهضة الاوروبية. ومن بين هؤلاء الذين نطقوا بالحقائق نذكر المستشرق الفرنسي جوستاف لوبون Gustave Lebon الذي اشاد بدور المسلمين في تنوير اوروبا.. فقد ذكر في كتابه الذي يحمل عنوان حضارة العرب 1884 ما يلي: «كان تأثير العرب المسلمين على الغرب عظيما، واليهم يرجع الفضل في حضارة اوروبا.. ولا يتسنى لنا معرفة التأثير العظيم الذي اثره العرب المسلمون في الغرب، الا اذا ادركنا مدى تخلف اوروبا في الزمن الذي دخلت فيه الحضارة الاسلامية اليها في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين حين ازدهرت الحضارة العربية الاسلامية في الاندلس بينما كان سادة اوروبا نصف متوحشين يعتكفون في ابراج عالية ويتفاخرون بأنهم أميون.. ان العرب المسلمين هم الذين اخرجوا الغرب من التوحش وأعدوا النفوس للتقدم والرقي بفضل علوم العرب وآدابهم التي اخذت الجامعات في اوروبا تعول عليها فانبثق منها ذات يوم عصر النهضة الاوروبية».

ان هذا الاعتراف بالدين وبفضل العرب على اوروبا لا نجد له اثرا في المناهج الدراسية الاوروبية والامريكية التي يعول عليها في تكوين وعي التلاميد الاوروبيين والامريكيين الذين سيصبحون فيما بعد اصحاب الرأي والقرار السياسي في اوروبا وأمريكا. ونحن نطالب المسؤولين عن المناهج الدراسية في الدول الاوروبية وفي الولايات المتحدة الامريكية بتصحيح المعلومات المغلوطة في الكتب المدرسية واستبدالها بالحقائق التاريخية الثابتة انطلاقا من مبادئ احترام حقوق الانسان وإرساء حوار الحضارات بدلا من صراع الحضارات.

* أستاذة بقسم الدراسات العربية والإسلامية (جامعة جنيف ـ سويسرا) الأمين العام المساعد للمؤتمر الإسلامي الأوروبيٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ