قفزة السبوتنيك البيولوجية .. ودخول عصر جديد من العلاج بالاستنساخ الجسدي

TT

في 5 يوليو من عام 1996 م رأت النعجة دوللي نور الحياة في معهد روزلين في ادنبرة باسكوتلاندا في بريطانيا على يد (إيان ويلموت) وفريقه العلمي. وفي 23 فبراير من عام 1997م تم الإعلان عن ولادتها فكانت أشِبه بالزلزال في الأوساط العلمية، فلأول مرة في تاريخ الخليقة يتم التكاثر بدون اتصال جنسي. وفي 14 فبراير عام 2003م تم الإعلان عن موتها، وتبين أنها مخلوق ذو عوج مليئة بالأخطاء. وسبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما (لا يعلمون).

وحسب المعلومات البالينتولوجية فإن طريقة التكاثر (الجنسي) هي التي اعتمدتها الطبيعة منذ نصف مليار سنة طريقا للتكاثر، وهي السارية بين 99% من الخلائق. وقبل ذلك كانت الخلايا تتكاثر (لاجنسياً) كما هو الحال في تكاثر الباكتريا.

وحسب أحدث الأبحاث (البيولوجية) فإن الكروموسوم (الذكري) يتآكل وهو مهدد بالانقراض، وحسب دراسة (براين سايكس) من جامعة أوكسفورد في بريطانيا فإن ثلثي الكروموسوم الذكري قد تآكل في مدى 300 مليون سنة الفائتة وفي مدى 5000 جيل، أي بعد 125 ألف سنة لن يبقى ذكور على وجه الأرض!

وهذا يفتح السؤال الجدي عن معنى (الاستنساخ الجسدي Somatic Cloning) بعد زوال كروموسوم الفحولة وتوقف التكاثر بالزواج بين ذكر وأنثى؟

وهناك قانون في الطبيعة يفيد بأن (الأهداف الجانبية) تتولد في العادة (صدفة) من الهدف الرئيسي على نحو غير متوقع أو مرسوم له وتحل معضلات كبيرة. وهكذا فدواء (الفياجرا) كان بالأصل مخصصا لمرضى القلب، فتبين أنه يقضي على مرض القلب ويدفع الدوران في الأعضاء التناسلية فيحل مشكلة العنة التي عانى منها الرجال منذ أيام حمورابي.

ولم يتخيل مصممو الصواريخ الفضائية أنها ستكون السبب خلف انتشار القنوات الفضائية. والانترنيت كان مشروعا عسكريا فأصبح الناس بنعمة الانترنيت إخوانا. ولم يكن (روبرت أوبنهايمر) يتصور أن قنبلته على هيروشيما ستكون السبب في السلام العالمي عن طريق الردع المتبادل.

وكذلك الحال في (الاستنساخ الجسدي) فقد فتح الطريق للعلاج الاستنساخي باكتشاف مزية الخلايا الجذعية لإنتاج أي نوع من الخلايا وبدون ظاهرة رفض الجسم لها ومعالجة الأمراض التي كانت في حكم المستحيل مثل الشلل بانقطاع النخاع الظهري.

بكلمة أوضح يمكن أخذ خلية من جسم إنسان مريض بالسكري ودفعها للتكاثر بطريقة الاستنساخ الجسدي إلى مرحلة العلقة (Blastocyst) ثم أخذ خلية واحدة نتفاهم معها بطريقة كيماوية فتنقلب إلى خلية منتجة للأنسولين ثم نقوم بعملية زرعها وتكاثرها ثم حقنها في البدن ونكون بذلك قد حللنا مشكلة مريض السكري بطريقة جذرية فيستغنى عن حقن الأنسولين مدى الحياة وكل مضاعفاته من اعتلال الشبكية والعمى وغانغرين القدمين أو قصور الكلية وانسداد شرايين القلب؟

وهذه الطريقة الثورية تعني دخول عصر جديد من الطب العلاجي. والفضل في هذا يعود إلى أمر جانبي جاء من تقنية ولادة النعجة (دوللي). والنعجة المذكورة هلل لها العالم حينما جاءت، ولكن لم تتم فرحة الفريق العملي بها فقد بدت عليها ملامح الشيخوخة والمرض. كما ظهر إلى السطح أن عملية الاستنساخ الجسدي ليست بدون مشاكل.

وفي يوم فرح أناس مع انفجار تشالينجر في الهواء فقالوا لقد تحدوا السماء فدمرتهم. وهناك من يردد هذا مع مجيء دوللي أنها ضد الخلق الإلهي؟

والمسألة ليست هكذا، بل هناك نظم خاصة للتطور العلمي. فهو يمشي على قدمين ثابتتين من الحذف والإضافة، وله قانونه الأخلاقي الذاتي. وعندما حرم القرآن الخمر والميسر فلأن إثمهما أكبر من نفعهما. والله يحل الطيبات ويحرم الخبائث. ويذهب الزبد جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض وهذا قانون وجودي، كذلك يضرب الله الأمثال.

والعلم لا يعرف الوسن أو التعب كما لا يقدم استقالته مطلقاً. وهذا الذي حصل فبعد أن حُرِّمت أبحاث الاستنساخ الإنساني في أمريكا وأوربا غارت في الغرب لتنبجس ينابيع في الصين والشرق الأقصى. ويبدو أننا أمام صدمة سبوتنيك من نوع بيولوجي حاليا، كما حصل في منتصف القرن العشرين حينما تفوق الروس على الأمريكيين في إرسال المركبة سبوتنيك إلى الفضاء الخارجي. وكان ذلك لأمريكا بمثابة الصدمة (صدمة السبوتنيك) فراجعت مناهج التعليم بالكامل وأدخلت التعديل عليها. وهو ما يتردد فيه العرب حاليا بما هو أشد بمائة مرة من صدمة السبوتنيك. وتعمل الصين حاليا ومعها دول الشرق الأقصى على بناء مدن كاملة (Biopolis) للصدمة البيولوجية الجديدة ودخول العصر الطبي الجديد. وهذا الذي انفجر في مؤتمر سياتل في أمريكا في 12 فبراير 2004م حينما أعلن الطبيب البيطري من كوريا الجنوبية (هوانج وو سوك Hwang Woo Suk)عن خرقه للتابو ووصوله بعد عمل عشر سنين إلى مرحلة العلقة الإنسانية بالاستنساخ الجسدي ووضع يده على 200 خلية أساسية، مثل الجنود الجاهزين للتحول إلى أي نوع خلوي وتشكيل 210 انواع من الأنسجة، بل التحول إلى إنسان مستنسخ! وكل ما تحتاجه التقنية الجديدة هي ترك الخلايا المستنبتة تتابع طريقها الى رحم امرأة!

وهذا الانعطاف الذي حصل من محاولة استنساخ الإنسان إلى اعتماد تقنية استنساخ خلايا جذعية أساسية (Stem Cell) يعود السبب فيه إلى ما طرأ على النعجة دوللي بعد مجيئها للعالم وملاحظة شيخوختها المبكرة وانفجار الأمراض في كيانها. مما دفع الفريق العلمي إلى قتلها برصاصة الرحمة من حقنة وريدية وإعلان موتها في مطلع عام 2003م بدون ضجة وبدون حضور الإعلام وبدون مراسم دفن مثيرة!

فما الذي حدث مع النعجة دوللي بعد مجيئها للحياة في شتاء 1997م؟

تنقل مجلة «در شبيجل» الألمانية (العدد 8 / 2003م) عن (هاري جيرفين Harry Grffin) الباحث من معهد روزلين، أن النعجة دوللي ماتت بالتهاب رئوي والتشريح هو الذي سيكشف بدقة ما الذي قضى عليها وهي في عمر الشباب، فالعادة أن النعاج تعمر من 10 إلى 16 سنة وهي ماتت في ميعة الصبا! ليس هذا فقط بل اكتشف الباحثون في مايو 1999م أن دوللي بدت أكبر من عمرها الافتراضي من خلال دراسة (التيلوميرTelomere)، وهي نهايات الكرموسومات التي تتآكل مع تقدم السن وفق ساعة زمنية من الانقسامات، وما شوهد عندها تآكل أكثر من المفترض حدوثه. وفي مطلع عام 2002م لوحظت إصابتها بالتهاب مفصل الورك الخلفي الأيسر وهي علامة المسنين.

ماتت دوللي أخيرا وعمرها ست سنوات بعد أن أنجبت ستة أحمال طبيعية. والتكهنات قوية بأن دوللي لم تأت إلى الحياة كما يأتي أحدنا ليبدأ رحلة الحياة بريئا من الصفر، بل جاءت إلى العالم وعمرها من عمر النعجة التي اشتقت منها.

ولم يكن خبر دوللي الوحيد بل ماتت نظير دوللي النعجة الأولى المستنسخة في أوستراليا فجأة في مطلع فبراير عام 2003م. وكل ما استنسخ بعد دوللي من الثدييات من المعز والخنازير والقطط والأرانب بدا عليها جميعا امارات مرضية من بدانة غير حميدة وصعوبة تنفس ومشاكل في الدوران والقلب. والكثير منها مات في الرحم أو بعد الولادة مباشرة وما عاش لم يكن أفضل حالاً بل كان مبتلى بالمضاعفات والتشوهات الولادية. وحتى اليوم فإن 95% مما استنسخ كان غير طبيعي. وهو إن دل على شيء فهو التريث في الاستنساخ الإنساني قبل أن يخرج علينا فرانكنشتاين.

وبين الحين والآخر تروج إشاعات عن استنساخ إنساني كما يتحدثون عن دجال باكستان بعين واحدة يقرأ المستقبل أو عن الشيخ العمري في عسير الذي يطفئ النيران ويخرج الجان من إبهام إصبع القدم اليمنى! ولكن العلم له قدرة تصحيح ذاتية، وجماعة كندا (الرائيون) الذين أعلنوا الاستنساخ الإنساني تبين أن حديثهم لا يزيد عن حديث دجال باكستان. والدجالون عندنا كثيرون وفي السياسة أكثر ومن يصدقهم أكثر فأكثر. وهي تذكر بقصة جحا والحمار فقد طلب منه جاره يوماً أن يعيره حماره فقال هو في السوق، وما كاد جحا ينطق بهذه العبارة حتى بدأ الحمار ينهق بصوت منكر فقال جاره يا شيخ هذا الحمار يملأ الدنيا نهيقا وأنت لا تعترف بوجوده فهز جحا رأسه وقال ما أغربك من رجل تصدق الحمار ولا تصدق هذه اللحية الشائبة! (يتبع)