سنوات كلينتون .. الإخفاقات والنجاحات

TT

يا للحسرة! انه سيغادر البيت الأبيض في النهاية. نعم، بيل كلينتون سيغادر بعد ان ظل يردد عبارات الوداع طوال العام الذي مضي. بدأ ذلك في الشتاء الماضي عندما صوّر فيلماً تسجيلياً عن ايامه الاخيرة بالبيت الابيض. ومثله مثل بطل ريمون شاندلر في فيلمه المثير «الوداع الطويل»، ذاق كلينتون صعوبة الفراق.

كيف سيحكم التاريخ على هذا «الولد العائد» من هوب بأركانسو؟ الارجح انه سيذكر كأكثر السياسيين جاذبية ممن وصلوا الى قمة السلطة الاميركية خلال عدة عقود. وعلى مستوى فلسفي اعمق، يمكن ان يُذكر كلينتون باعتباره ذلك السياسي الذي ذهب بمبادىء مكيافيلي الى نتائجها المنطقية المرعبة. وكان كاتب فلورنسا قد صك القاعدة المشهورة: «الغاية تبرر الوسيلة»، ولكن كلينتون ذهب خطوة أبعد اذ اصر على ان «الوسائل هي الغايات». ما كان يهمه هو الوصول الى السلطة، بصرف النظر عن كيفية الوصول اليها، أو ماذا يفعل بها. وهو أخذ من كانط مفهوم «الشيء من ذاته»، اي الانفصال المطلق بين الظواهر ومعانيها التي اكتسبتها من خلال الثقافة والأخلاق. لقد بدا كلينتون انه يستطيع الانتقال من موقف اليساري الراديكالي الى موقف نقيض له. لم يكن يسارياً، ولم يكن يمينياً، ولم يكن من الوسط، كان دائماً في مكان «آخر»، في محيط كلينتوني خاص به.

في خطبته الوداعية يوم الخميس، ادعى كلينتون انه خلّف وراءه ارثاً من الانجازات. وهو صادق على الأقل في حالة واحدة. فقد نجح في جعل خطبته الوداعية قصيرة، سبع دقائق فقط، خارجاً على اسلوبه المعهود في القاء الخطب الطويلة المطنبة، على طريقة فيدل كاسترو. لكن ذلك يجب الا يمنعنا من القول انه يترك وراءه خليطا من الاخفاق والنجاح. ونعطي هنا امثلة على اخفاقاته ثم امثلة على نجاحاته:

* فشل في الحصول على اغلبية اميركية واضحة من كلتا حملتيه الانتخابيتين. عام 1992 عاد فقط بنسبة 41% من الأصوات في سباق ثلاثي. عام 1996 فاز بأغلبية 9% فقط، ولأن اكثر من نصف المؤهلين للتصويت قد امتنعوا عن الادلاء بأصواتهم، في الحالتين، فقد كانت نسبة التأييد التي حصل عليها بين 21 و23%.

* نصّب نفسه أباً «للطريق الثالث» و«للوسط المعتدل»، في السياسة الاميركية. ولكنه تسبب، اكثر من اي سياسي معاصر آخر، في تسعير الصراعات. وقد اتضح ذلك من خلال الانتخابات الاخيرة، الرئاسية والبرلمانية، التي كشفت عن بلاد انشطرت الى قسمين متعاديين، وعلى كل المستويات.

* قدم نفسه «كمنقذ» للحزب الديمقراطي. ويغادر السلطة في وقت يسيطر الجمهوريون فيه على كل افرع الحكومة، وذلك للمرة الاولى خلال 80 عاماً تقريباً.

* كان وعده الكبير في انتخابات 1992، هو تقديم الخدمات الصحية الحكومية لكل الاميركيين. ولكنه سرعان ما تخلى عن المشروع عندما تبين انه يمكن ان يؤدي الى فقدانه انتخابات 1996. والآن يجد 40 مليوناً من الاميركيين انفسهم خارج اطار العناية الصحية، اي ان عددهم زاد 10 ملايين مما كان عليه قبل دخول كلينتون الى البيت الابيض.

* وعد بتقليص فوارق الدخول. ولكن الفجوة بين أغنى 1% وأفقر 10% من السكان، صارت اوسع بثلاث مرات مما كانت عليه عام 1992. ولذلك فان فترة كلينتون ستُذكر في اميركا بأنها فترة الفوارق المتسعة.

* هلل البعض لكلينتون كمدافع عن حقوق الاميركيين السود، واطلق عليه الروائي الأسود توني موريسون اسم «رئيسنا الأسود الأول»، لأنه ربته أم وحيدة وهو يعزف الساكسفون. ولكنه هو الذي خطط لالغاء كثير من برامج الرعاية الاجتماعية التي يستفيد منها السود، وخاصة القاء العون الفدرالي للأمهات غير المتزوجات.

* وعلى صعيد السياسة الخارجية فان قائمة اخفاقات كلينتون اطول مما يمكن ايراده هنا. ففي البلقان ظل يجرجر قدميه بينما كانت المجازر العرقية مستمرة. ولم يوافق على التدخل الا بعد فوات الأوان. وفي الشرق الأوسط ادى فشله في اتخاذ موقف اميركي واضح، الى تشجيع المتشددين الاسرائيليين واثارة غضب العرب. في هاييتي، أدى التدخل الاميركي الى عودة الدكتاتور ـ القسيس جان بيرتراند ارستيد، مما اغرق البلاد في مزيد من الفقر والجريمة. وفي الحالات الاخرى، كالنزاع مع العراق ومستقبل العلاقات مع ايران، اكتفى بالمظاهر بدلاً من صياغة سياسة خارجية ذات معنى. وها هو يغادر والعلاقات مع روسيا ممزقة، والروابط مع الصين متوترة، اكثر مما كانت عليه خلال الثلاثين عاماً الماضية. وفي هذه الاثناء قرر حلفاء اميركا الأوروبيون ان يكونوا قوة دفاعهم المستقلة، مما يؤدي الى اضعاف الناتو، ومعه الدور القيادي لواشنطن. وقد قاد غياب الدور القيادي الاميركي القوي، الى سلسلة من سباقات الأسلحة، في اجزاء مختلفة من العالم، بما في ذلك تطوير الصواريخ بعيدة المدى، من قبل اكثر الأنظمة اضطراباً وحباً للمغامرات.

ليست فترة عقيمة بيد ان سنوات كلينتون الثمانية لم تكن عقيمة بالكامل. وهنا بعض الامثلة على نجاحاته.

* لقد استخدم كلينتون حيويته وطاقته العالية في الترويج للتجارة الحرة والعولمة. كما ان منظمة التجارة العالمية تدين له بتحقيق نجاحات مهمة، وكذلك بروز معاهدة شمال اميركا للتجارة الحرة (نافتا)، وافضت حملته لتحرير التجارة الدولية الى دعم الاقتصاد الجديد.

* كما نجح كلينتون في وضع حد للكراهية التي تواصلت طيلة جيل باكمله بين الولايات المتحدة وفيتنام، بان اصبح اول رئيس اميركي يزور هانوي.

* على الصعيد الاقتصادي، نفذ كلينتون قراره الحرج القاضي برفع الضرائب خلال مدته الرئاسية الاولى بهدف تخفيض عجز الميزانية الفيدرالية. وهذا بدوره ساعد في السيطرة على التضخم، وافضى الى انخفاض معدلات الفائدة ودعم الاقتصاد، وعلاوة على ذلك توفرت اكثر من 22 مليون فرصة عمل في الولايات المتحدة خلال رئاسة كلينتون، ووصل التضخم الى اقل مستوياته منذ 30 عاما. ويغادر كلينتون البيت الابيض وقد خلف وراءه اضخم فائض مالي للميزانية تشهده الولايات المتحدة في تاريخها.

* الى جانب ذلك، ورغم سلبياته الشخصية، وقف كلينتون في وجه الاصوليين المسيحيين وسواهم من جماعات الضغط التي تحاول ارغام المجتمع الاميركي على التحول نحو التعصب الاعمى. وخلال سنوات رئاسته تجول في انحاء الولايات المتحدة داعيا للتسامح واحترام التعددية.

* وعلى هذا الصعيد ايضا، اصبح اول رئيس اميركي يقر بأهمية الجالية الاميركية المسلمة وبادر الى استقبال ممثلين عن الجالية في المناسبات المهمة مثل عيد الفطر، وتوجيه رسالة تهنئة للمسلمين في هذه المناسبات، وايجاد اماكن للصلاة داخل كل البنايات الحكومية الفيدرالية.

* وساهم ما يتحلى به كلينتون من «براغماتية» في حلحلة المشكلة مع ليبيا، وهذا ما جعل التوصل الى حل وسط للخلاف حول تسليم المتهمين ومكان اجراء المحاكمة امرا ممكنا.

* ورغم وقوفه الى جانب اسرائيل، كان كلينتون اول رئيس اميركي يقول علانية لليهود، واثناء وجوده في البيت الابيض، ان فلسطين ليست ارضهم الموعودة، وان عليهم مشاركة الشعب الفلسطيني فيها. كما رفض نقل السفارة الاميركية الى القدس المحتلة، ودعم علنا قيام دولة فلسطينية وعاصمتها القدس العربية. وكان كلينتون يعتبر ان تحقيق السلام في الشرق الاوسط يمثل لب سياسته الخارجية. غير انه يغادر الرئاسة الاميركية من دون تحقيق السلام الشامل في هذه المنطقة. بيد ان ما من شك في ان جهوده اقتربت من النجاح مرات عديدة وعلى نحو لم يحدث مع رؤساء اميركيين من قبل.

* واخيرا، عمد كلينتون الى فقء الدمل الاخير في السياسة الخارجية الاميركية، وهو المتمثل في العلاقات مع كوريا الشمالية، وهذا انجاز مهم بالنسبة لامن كوريا الجنوبية واليابان والولايات المتحدة نفسها.

هل ستكون هذه هي المرة الاخيرة التي نرى فيها «ويلي الناعم الملمس»؟

لا اعتقد ذلك. الأرجح انه سيحاول ان يكون عمدة نيويورك، التي صارت زوجته هيلاري تمثلها في مجلس الشيوخ. واذا تعذر عليه ذلك فربما يقدم برنامج حوار تلفزيوني، لأن كلينتون لا يستطيع العيش خارج دائرة الضوء، انه يحتاج الى الاهتمام احتياج السمكة للماء.