أوراقي.. حياتي

TT

عندما بدأت قراءة السيرة الذاتية للدكتورة نوال السعداوي «أوراقي.. حياتي»، المكونة من جزءين، أحسست بالكآبة تغلف فكري، والحزن يجتاح فؤادي، وصقيع الشيخوخة يسري في شراييني، ممزوج بخليط من قشعريرة الوحدة ورعشة الخوف وصهد الجرأة الواصل إلى حد التهور. تقول في السطور الأولى «.. أصبحت أخجل من الشيخوخة.. أخفي يدي النافرة العروق عن عيون الناس.. حين يسألني أحد عن عمري أسكت لحظة ثم أقول بصوت خافت.. ستين.. أنطقها بصعوبة.. أمد عنقي نحو السماء، أرفع قامتي، أشد عضلاتي، أتحدى السنين والزمن.. أجلس معلقة كالشجرة أو الريشة في منطقة انعدام الوزن..». بعد انتهائي من قراءة الكتاب، احترت في تصنيفه! هل هو بالفعل سيرة ذاتية؟! لقد ترددت في وضعه داخل هذا الإطار، كون السعداوي لم تتطرق فيه إلى الكثير من الأمور المتعلقة بحياتها الشخصية، وقامت بالتركيز على الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي حصلت في الحقبة التي ولدت وعاشت فيها، وكثفت كلامها عن كفاحها الأسري، والجوانب الإيجابية في شخصيتها، وتصوير نفسها بطلة قومية، أو شخصية ملائكية لم تخطئ على مدار عمرها، وأسقطت النواحي السلبية فيها، مما يؤكد النظرية المعروفة في عالمنا العربي، أن السير الذاتية التي يكتبها القادة والمسؤولون والمفكرون العرب، تتسم بإغفال الحقائق، وتمجيد الذات، بعكس السير الذاتية الغربية، التي تتسم بالصدق والصراحة وتعرية النفس، كما نرى في اعترافات الأديب الفرنسي جان جاك روسو، وغيره من الأدباء والمفكرين الغربيين.

في رأيي أن السيرة الذاتية للسعداوي، تنحصر أهميتها في كونها بينت مجرى الأحداث، التي مرت بها مصر في العهد الملكي، وقبل قيام الثورة وبعدها، وعن الصراعات الحزبية التي كانت تدور في قاعات الكليات، وعن ماهية العمل الفدائي ضد الإنجليز، وانضمامها للتطوع فيه، وعن فترة العدوان الثلاثي على مصر، وعن تفشي المحسوبيات، والتغيرات الاجتماعية الحاصلة نتيجة الأوضاع السياسية القائمة في تلك الحقبة، ونشوء طبقة سميت في ذلك الوقت بالطبقة العازلة، كونها فصلت بين رئيس الدولة والشعب، مما أدى إلى حدوث الكثير من الثغرات في هيكل الثورة. يستنبط القارئ بين السطور، المعاناة النفسية التي تجرعتها السعداوي في طفولتها، نتيجة ولادتها في مجتمع قروي يمجّد بطبيعته الفطرية، الذكورة ويمقت الأنوثة، وينظر إلى المرأة على أنها مجرد وعاء للإنجاب، مما دفعها إلى العصيان والتمرد على طبيعتها الأنثوية، واقتحام مجال الطب، الذي كان مقتصراً على عالم الرجال، في عصر كان ينظر فيه للمرأة على أنها مخلوق هش، غير قادر على تحمل أعباء مسؤولياته، وهو واضح بين طيات سطورها، التي تبرز حينا، وتنزوي في أحيان أخرى، حسب المواقف التي مرت بها في حياتها. لا بد أن يتساءل المرء وهو يلتهم أسلوب السهل الممتنع للسعداوي.. لماذا مرت مرور الكرام على الرجال الذين أحبوها ورغبوا في الارتباط بها، وقفزت فوق أسوار عواطفها، وهرعت بعيداً عنهم، دون أن تنبش في ذكراهم؟! حتى تجاربها مع أزواجها الثلاثة، داست عليها بحذر كأنها تمشي فوق طريق مزروع بالألغام، خوفاً من أن ينفجر لغم منها تحت قدميها! إن هذا يؤكد أن المرأة العربية، لم تستطع تجاوز عقدة الخوف الكامنة في أعماق نفسها، وتوجسها الدائم من الصدام مع العادات والتقاليد والأعراف العربية، التي تأبى على المرأة المجاهرة بدواخلها، حتى لو أضحت ماضياً بعيداً! إن نوال السعداوي، الكاتبة التي أثارت الكثير من اللغط والجدل حول الكثير من آرائها السياسية والاجتماعية، والتي وصلت في بعض الأحيان إلى درجة التطرف، جعلتني أخرج بانطباع راسخ أن الإنسان بطبيعته يغوى إطلاق الشعارات في الهواء ليلاً ونهاراً، وحين يأتي وقت التطبيق، يجد نفسه حبيس عاداته وتقاليده وأعرافه، وإن حاول التمرد عليها اتهم بالجنون والانحراف الأخلاقي، لذا يؤثر السلامة، والوقوف عند خطوط الأمان. من الصور الجميلة التي نالت إعجابي، علاقتها بوالدها، الذي كان يحلم أن يصبح ذات يوم أديباً كبيراً، لكن ظروفه المعيشية حالت دون ذلك، وعن مكتبته التراثية الكبيرة، وتشجيعه لها على قراءة محتوياتها، مما دفعها إلى إدمان الأدب، وصقل شخصية الأديبة بأعماقها. كانت تردد أمامه ان الأدب أهم عندها من الطب، وكان يجيبها: إن الأدباء يموتون من الجوع، ويدخلون السجون.. نصيحتي لك أن تتمسكي بمهنة الطب. وظل يلح عليها قبيل موته، أن تفتح عيادة خاصة وتترك وظيفتها بوزارة الصحة، متهكماً بأن الوظيفة مقبرة المبدع، حتى لو أضحى وزيراً. الحكومة تصنع الوزير بقرار، وتخلعه بقرار. لقد كان لوالدها تأثير كبير عليها، في ترسيخ الكثير من القيم والمثل والمبادئ في شخصيتها، من خلال تصرفاته، وكان يرفض الهدايا التي كان يقدمها له الأهالي حين كان مفتشاً بوزارة المعارف، على اعتبار أنها رشوة في نظره، مما رسّخ في داخلها قناعات جميلة، بعدم الخضوع في كبرها لأي نوع من المغريات المادية.

في الجزء الثاني تتحدث عن قرارها مغادرة مصر، بعد ان تلقت عدة رسائل تهديد بقتلها، ورغبتها في تدوين سيرتها الذاتية، على أساس أن الكاتب تزداد حياته قيمة بالاقتراب من الموت، وأن لا شيء يقهر الموت مثل الكتابة. ثم تتحدث عن السنوات الخمس الأخيرة التي قضتها في الغربة، واعترافها بأن مرارة الغربة، تدفع الإنسان إلى استعادة صور ذكرياته مع معارفه وأصدقائه، حتى مع الأموات منهم. وألقت حيزاً من الضوء على علاقتها بزملائها من الأدباء والصحافيين، أمثال يوسف إدريس، وأحمد بهاء الدين، وكيف كان الأخير يضطر إلى وقف نشر بعض قصصها لجرأتها وخروجها عن المألوف. في نهاية الجزء الثاني، تبلغ مشاعر الحزن اقصاها، وهي تصف معاناة والدتها من مرض السرطان، وموت والدها المفاجئ بعد موت والدتها بأربعة أشهر، وإحساسها بموته قبل ان يصلها الخبر، لقناعتها بأن هناك إشعاعات كالرادار تنطلق عبر الجو يسمونها «تِليباثي»، تؤدي إلى حدوث التقاء بين الأرواح، بالرغم من تباعد المسافات.

تقول السعداوي عن طفولتها «.. غضب الطفولة أقوى غضب.. أصدق غضب.. أنقى غضب..». هل طفولة المرء، هي المدخل الرئيسي، الذي يتبين من خلاله مراحل حياته المقبلة؟! هل موروثات الماضي، هي التي تُشكّل رصيد الحاضر ومنارة المستقبل؟! هل التربية الأسرية، التي يتلقاها الإنسان في صغره، هي التي تبني هيكل شخصيته؟! والمبدع.. هل لا بد أن يصطدم بجدار مجتمعه، ليحقق أحلامه؟! هل يجب أن يجاهد الأديب بعنف، لكي يقول كلمته ويمضي، مهما كانت عواقبها وخيمة؟! عندما يفرغ القارئ من الكتاب، يزفر زفرة طويلة، ويشخص ببصره بعيداً، ويجد نفسه محاطاً بكل هذه التساؤلات. هذا ما استخلصته من السيرة الذاتية للسعداوي المليئة بالأحزان الدفينة، أفرغتها من جوفها على الورق، بعد ان ترسبت في أمعائها سنوات طويلة. لا أعرف.. ربما أحست أن لا وقت لاختزان الدموع!