محاربة الفساد.. انتقام القادم من الأيام

TT

هل هي صحوة ضد الفساد؟! هي ـ بالتأكيد ـ كذلك، فقد طالت دولا واشخاصا لا تفرق بين شرق العالم او غربه، ديكتاتوري نظامه ام ديمقراطي، فما لبث ان صار اللون واحدا، والمفهوم واحدا، والشعار واحدا.

ان محاربة الفساد بكافة الوانه وطرائقه، باتت اسلوبا شائعا في عصرنا الراهن، لم يلبث ان تحول هذا الشعار الى ظاهرة استشرت عدواها الى البلدان الصناعية والنامية على حد سواء. وقد ساهمت في اندفاعها مؤثرات داخلية تارة وضغوط خارجية تارة اخرى. ولا يهمنا كثيرا نوعية المؤثر بقدر ما ان المهم يكمن في النتيجة والاثر الذي يتمخض عن هذا السبب او ذاك.

على ان انبعاث اليوتوبيا (المثالية) في عصر العولمة، له ما يبرره، فالتحولات والمتغيرات لم تعد وتيرتها بذلك البطء المعهود عنها في العقود الفائتة، بل اصبحت تتسارع وبشكل يفرض على المتلقي ان يتفاعل معها والا اصبح من الخاسرين.

ولذا يمكننا ان نتفهم هنا، وبتجرد، اسباب الاهتمام الدولي بحقوق الشعوب، والانسان تحديدا، كما نلحط التركيز الاعلامي على فضح كل من ساهم في تكريس مناخ الفساد بغض النظر عن موقعه سواء في قمة الهرم او على سفحه. فاللغة الاعلامية المستندة الى المكاشفة ـ هنا ـ هي من افرازات العولمة بدون ادنى شك.

غير ان المثير حقا، يتمثل في ان نغمة الفساد التصقت في الآونة الاخيرة بالزعماء والرؤساء، وهم الذين تفترض فيهم الامانة وحماية حقوق شعوبهم، ولكن يبدو ان (حاميها حراميها) كما يقال، فها هو احمد سوهارتو الذي حكم اندونيسيا لثلاثة عقود، يُحال الى المحاكمة بدعوى نهبه 48 مليار دولار خلال مدة حكمه، كما ان جارة دولته الفلبين تعيش معاناة لا تقل في كارثتها عن تلك، فالرئيس الفلبيني جوزيف استرادا مطلوب للمحاكمة في مجلس الشيوخ كونه قبض عمولات بمقدار (10 ملايين دولار) صرفها في بناء قصور مهيبة اقل ما يقال عنها انها تجمع خليلاته ومحبيه.

بينوشيه مثالا وان كان الفساد ارتبط بمفهوم المال والرشوة، فان استغلال السلطة وسوء استخدامها فساد لا يقل خطورة ان لم يزد، فالزعيم التشيلي اجوستو بينوشيه ظل في منصبه ربع قرن، يحكم بكل صلافة وديكتاتورية، وظن ان الزمن قادر على محو اخطائه الجسام، ولكن (يمهل ولا يهمل)، وها هو الديكتاتور يتعرض لملاحقة قضائية بتهمة الخطف والقتل لعشرات من الابرياء ذهبوا ضحية لحكمه الارعن.

ولا يقف الامر عند هذا الحد، لانه حتى لو كنت لا تتقلد منصبا رفيعا، فان الانتماء الى اسرة ذات سمعة وشأن، لا يعفيك من المثول امام القضاء بل والدخول الى السجن، ولعل جان كريستوف ميتران (ابن الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران) وقضيته الشهيرة التي ادخلته الى السجن، وتحفظت سويسرا على امواله، تعزز هذا التوجه الذي بات ملحوظا في اغلب دول العالم، فلا كثرة امواله ولا سمعة والده انقذتاه من دخول السجن، أليس كل هذا يمثل تحولا في عقلية الشعوب؟! في اعتقادي انه يمثل جهازا رقابيا جديدا يسمى «رقابة الحكام ومحاربة فسادهم»، فهذه اللغة الجديدة اصبحت لغة عالمية كالفن التشكيلي والموسيقى، تشكلت من احساس الشعوب. فالقمع والاضطهاد والارهاب من قبل الحكومات، لم تعد مقبولة في صيغة اللغة العالمية الجديدة، ومن يتجرأ على ذلك، فالزمن وحده كفيل بالانتقام، وما اشد انتقام القادم من الايام.

ولعل من يتابع ابعاد هذه اللغة الجديدة يجد ان لها ادوات لم تلبث ان اخذت مكانها الفسيح في قلب العالم، وشغلها الشاغل احقاق الحق في كل دول العالم، وما المحكمة الدولية وكذلك الجنائية بالاضافة الى الانتربول ومنظمات حقوق الانسان والاتفاقيات الامنية الموحدة، الاّ تكريس لهذا النهج الجديد الذي لا يعرف النسيان ولا العفو ولا يفرق بين الحاكم والمحكوم في ميثاق لا يميزه الا المساواة والعدالة.

وعندما نطرح هذا المفهوم الجديد ـ وبشكل موضوعي ـ للتحليل السوسيولوجي والمعرفي، نجد انه جاء في مرحلة تراكمية بدءا من العصور البدائية، فالقبيلة والعشيرة، ومرورا بالدولة القطرية والتكتلات الاقليمية وانتهاء بالمفهوم العولمي الذي كسر القيود ولاقح الثقافات وزرع مفاهيم التعايش والحوار واحترام حقوق الانسان.

ورغم ان المفهوم الاخير لم يصل بعد الى مستوى الالزام، الاّ انه في طريقه الى هذا الاتجاه، لا سيما ان عناصره وبذوره بدأت في التبلور، واخذت كينونتها التي قد تحقق في نهاية المطاف طرحا جديدا لمفهوم الالتزام والطريقة المثلى لمجازاة اية دولة تحلق خارج السرب. ولكن ماذا عن عالمنا العربي، وقصة الفساد معه! المثالية والواقعية.. فجوة كبيرة ان الحقيقة الماثلة تقول ان هنالك فصاما (شيزوفرينيا) اي وجود فجوة بين اليوتوبيا (المثال) والواقع في العقلية العربية، وان كل شيء مسيس في هذه العقلية ما عدا السياسة نفسها، والتي قال عنها الشيخ محمد عبده «اعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس».

ومن الطبيعي ان تعيش هذه العقلية في ازمة وحالة عدم استقرار، ولك ان تعود الى التاريخ.. سأل رئيس العسكر المملوكي فقيه البلد وهو يحمل رأس السلطان المقطوع: من هو السلطان.. فرد الفقيه: السلطان من قتل السلطان..

وقال امير المؤمنين الوليد بن عبد الملك «من قال لي اتق الله بعد مجلسي هذا.. قطعت عنقه».

وفي هذا السياق يقول باحث عربي، ان المفارقة هي ان العرب اكثر تسامحا مع غيرهم مما هم مع انفسهم، فالمشكلة ليست العربي في التسامح مع غيره بقدر ما هي مشكلته اولا وقبل كل شيء في التسامح مع نفسه ومع ابناء جلدته وقومه ودينه.. «ظلم ذوي القربى اشد مضاضة..». ان ما تقوم به الحكومات العربية في الآونة الاخيرة يثير الدهشة والاعجاب في آن.. (فما لا يدرك كله لا يترك جله)، الا ان المثير للاستغراب انه جرت العادة في تلك الدول عدم اثارة مثل هذه القضايا، والاكتفاء بالعقوبة الادارية في حالة انكشاف القضية، والحقيقة ان المسميات والمصطلحات التي تطلق على هذا السلوك، لم تكن بهذه الجرأة في الخطاب الحكومي العربي ـ ان جاز التعبير، فكان يستعاض عنها ـ منذ الادارة العثمانية ـ بمفاهيم وعبارات كالقضاء على البيروقراطية، ومحاربة الروتين، ومحاسبة الموظفين السيئين، وما الى ذلك من مصطلحات. كانت تعتقد تلك الحكومات ان اثارة مثل هذه القضايا في العلن، قد تضر بسمعتها ومكانتها، لكنها سرعان ما اكتشفت انها ترتكب خطأ جسيما بحق نفسها وشعوبها، مما ساهم في زوال ايمانها بانها دول فاضلة، وان شعوبها ملائكة.

ورغم ما ذُكر من قصص ومواقف بشأن بعض الدول الغربية او التي ترتكز على النظام المؤسسي في آلية الحكم فضلا عن ساحة الحرية ومفاهيم الديمقراطية مقارنة بالدول العربية، فانها (اي تلك الدول) تبقى افضل حالا من غيرها، لان تعاملها مع الفساد يتم بشفافية ومكاشفة، ولو لم يكن كذلك، لما تبين حال اولئك الرؤساء ولما انكشف واقعهم المزري، مما يعني ان تلك الدول تملك آلية قادرة على كشف اساليب الفساد ـ على اقل تقدير ـ وبالتالي القضاء عليه استنادا الى نصوص الدستور.

ان المأسسة والقضاء المستقل وصحافة بدون رقابة من الادوات الفعالة لكبح جموح الفساد واضعاف نموه، وهذا ما يمكن ملاحظته في تركيبة الانظمة الغربية، اي يتم التعامل معها (قضايا الفساد) ضمن آلية محددة ومعروفة وثابتة، في حين انه في عالمنا العربي تظهر فجأة وتغيب فجأة تبعا للموقف، وهذا ما دفع البعض الى القول ان طبيعة الانظمة الحاكمة في العالم العربي تساعد على نمو وتكريس هذا المناخ، وذلك باستغلال بعض الوجوه لتحقيق مآربها، وفي حال انكشاف حالها، فان تلك الوجوه تكون كبش الفداء.

على اية حال، في المقولة السابقة كثير من الصحة، الا ان التعميم في مثل هذا الطرح يعارض النظرة العقلانية في تحليل الاشياء، وهذا ما يقودنا الى التفرقة بين الحالات الفردية الشاذة وبين الحالات الجماعية التي تتراكم كظاهرة تسترعي الانتباه.

محاربة الفساد وديمومتها وليس من جديد في القول ان هناك حربا ضد الفساد في السعودية والجزائر وسورية وغيرها، ولكن العبرة بالنتائج والقدرة على اجتثاث الجذور، وليس الارتكان الى الحلول المؤقتة التي قد تحقق نتائج مرضية في نفس اللحظة، الا ان استمراريتها على هذا المنوال، تؤدي بكل تأكيد الى عكس ذلك.

بمعنى ان النتائج المرضية المقصودة (الستر على الناس، الحفاظ على الروابط الاجتماعية، اخفاء الفضيحة للسمعة.. الخ) تكون لحظية التأثير ثم لا تلبث ان تزول، بل تتعاظم خطورتها كلما ازداد التساهل (والتطنيش) مما يؤدي الى نخر الاقتصاد والوطني وضياع الحقوق وبالتالي البلاد. ان محاربة الفساد يجب ان تكون دائمة وضمن آلية محددة وواضحة لا تتساهل مع اي كان، فالقانون فوق الجميع، ولا يجب استغلاله وفق قاعدة «لا حبا في علي، ولكن كرها في معاوية..».

ويبقى شعار المثالية (اليوتوبيا) السلاح الحقيقي لتدمير الفساد بأنواعه واساليبه، وطالما وُجد الضمير الانساني العالمي وتوحد ازاء هذه القضية، فانه ـ بالتأكيد ـ سيحقق الصالح العالم للبشرية جمعاء، لانه بذلك سيجعل الزعماء (قبل الشعوب) يحسبون خطواتهم جيدا حتى (لا يسبق السيف العذل) ـ والله من وراء القصد.