لئلا يدور بوش في حلقة كلينتون الفارغة

TT

يصادف اليوم موعد انتقال جورج بوش إلى البيت الأبيض ليتسلم من سلفه بيل كلينتون حكم اقوى دولة في التاريخ. قد يكون بيل كلينتون هو الرئيس الأميركي الأكثر اثارة للجدل إلى جانب ريتشارد نيكسون. وقد يكون جورج بوش هو الرئيس الأميركي الأقل اطلاعاً على الشؤون الخارجية إلى جانب رونالد ريغان. واتوقع ان يلجأ جورج بوش إلى «خدمات» بيل كلينتون ليستشيره في العديد من الأمور التي ترعاها الولايات المتحدة في الخارج، ومنها مفاوضات التسوية السلمية في الشرق الأوسط.

وقبل أيام قليلة، التقى الرئيس المصري حسني مبارك بنظيره السوري بشار الأسد عشية تسلم الادارة الأميركية الجديدة مهامها، ومن ضمنها مهمة استكمال الرعاية الأميركية للتسوية السلمية في المنطقة. ولن يتوانى الرئيس السوري الجديد عن مواصلة مشاوراته مع الرئيس المصري العتيق الذي يعمل على تنسيق المواقف العربية، بما فيها التنسيق المباشر بين سوريا والسلطة الفلسطينية. وأظن أن العودة إلى تنسيق المسارات الفلسطينية ـ السورية ـ اللبنانية بات خياراً يستحق الجهد والمحاولة في ظل الظروف الاقليمية والتطورات الدولية.

بالطبع جورج بوش يحتاج إلى بعض الوقت لتثبيت إدارته قبل المباشرة بالتسوية من حيث انتهت. وبشار الأسد يحتاج إلى بعض الوقت لتركيز جهوده على موضوع المفاوضات، مع فارق اساسي يتجسد بالفارق بين دور رئيس الجمهورية في دولة كالولايات المتحدة وفي دولة كسوريا. رئيس الجمهورية في دولة المؤسسات كالولايات المتحدة يمكنه في أحسن الأحوال ان يحول اللون الرمادي من رمادي غامق إلى رمادي فاتح. أما رئيس الجمهورية في دولة احادية كسوريا فيمكنه في كل حال ان يجعل الابيض اسود والأسود أبيض.

ومن مفارقات الاحداث أن يكون بيل كلينتون هو اكثر رئيس اميركي سعى إلى إنجاح التسوية السلمية في الشرق الأوسط، وخاض تفاصيلها العميقة، وصرف عليها وقتاً طويلاً، وبذل جهداً كبيراً لتذليل عقباتها، غير انه الرئيس الذي أحاط نفسه بأكبر عدد من الأميركيين من أصل يهودي، مما جعله ينحاز إلى اسرائيل على حساب العرب فتذهب كل جهوده وأوقاته هباء.

بناء عليه، يتعين على جورج بوش ان يصحح السياسة الأميركية إلى حد ما. فلا أحد يتوقع ان تصبح السياسة الأميركية «عادلة» في الشرق الأوسط، بل يأمل العرب، ولا سيما اصدقاء الولايات المتحدة منهم، ان تصير السياسة الأميركية «عاقلة»، فتقرب من سياسة الرئيس الجمهوري دوايت آيزنهاور الذي دعم اسرائيل في الخمسينات، لكنه حظي باحترام العرب له نظراً لمواقفه العاقلة.

ولا بد من ان يأخذ جورج بوش بعين الاعتبار، ان قوى السلام تتراجع في الشرق الأوسط أمام قوى التشدد والأصولية. فبقدر ما تتراجع حظوظ التسوية النهائية على كل المسارات، بقدر ما تكبر حظوظ المتشددين ليصلوا إلى مواقع القرار في كل بلدان المنطقة، ولا سيما في اسرائيل والمناطق الفلسطينية.

ونشهد بأم العين انتفاضة فلسطينية ضد اسرائيل وبوادر انتفاضة اسرائيلية ضد «المعتدلين» في اسرائيل بمن فيهم ايهود باراك. ويعود السبب الرئيسي إلى تعثر جهود الرئيس الأميركي المرة تلو الأخرى، مما أدى إلى احياء عوامل الصراع على الأرض بدلاً من تجديد عوامل السلام على طاولة المفاوضات.

ومن نافل القول ان بيل كلينتون لم يبذل جهداً على المسار السوري مماثلاً للجهد الذي بذله على المسار الفلسطيني. وانجرف وراء إسرائيل في لعبة التجاذب بين المسارين السوري والفلسطيني، وفي تغليب مسار على آخر، أو تسريع مسار على حساب آخر، فيما كان المطلوب واحداً على المسارين، وهو قبول إسرائيل بالانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران (يونيو) من عام 1967.

ولا تفوتني الاشارة إلى ان تسليم إدوارد دجرجيان مهمة المبعوث الخاص إلى الشرق الأوسط قد تعني اهتماماً أميركياً ملحوظاً بالمسار السوري بالنظر إلى ان الديبلوماسي الأميركي، وخلافاً لسلفه دنيس روس، يحظى بثقة الأطراف العربية، وسبق له أن تولى تمثيل بلاده في سوريا وإسرائيل، وواكب وراقب تطورات الصراع العربي ـ الاسرائيلي عن كثب.

لكن تثبيت ادوارد دجرجيان في هذه المهمة لا يكفي وحده لإنضاج تسوية مقبولة من الأطراف كافة. فلا بديل من الضغط الأميركي لردم الهوة بين الأطراف عن طريق تكبير عوامل التقارب وتصغير عوامل التباعد. ولن يكون الأمر ممكنا إلا إذا التزم جورج بوش بممارسة دور الشريك الكامل في التسوية، مع ما يقتضيه من ضرورة ممارسة الضغوط على إسرائيل، وحملها على الإقرار بمبدأ «الأرض مقابل السلام»، ومنعها من التفاوض على الأرض وعلى السلام معاً.

ثوابت مؤتمر مدريد التي اطلقها جورج بوش الأب منذ حوالي عقد من الزمن تفترض ان تكون مسألة الأرض محسومة سلفاً، وان تدور المفاوضات حول مقتضيات السلام. وإذا أراد جورج بوش الابن أن يصل بتلك المفاوضات إلى خواتيمها، فما عليه الا أن يعود إلى مقترحات والده وليس إلى مقترحات بيل كلينتون، فيحسم مسألة الأرض مع إسرائيل وحدها من دون الأطراف العربية، ويحملها على القبول بالانسحاب من الضفة الغربية والقدس الشرقية، ومن مرتفعات الجولان في سوريا، ومن مزارع شبعا في لبنان، كأساس لا بد منه لتحقيق السلام في المنطقة.

لقد أظهرت تجارب المفاوضات على مدى السنوات الماضية أن مسألة الأرض غير قابلة للتفاوض من الجانب العربي، وأن تشبث إسرائيل في طرحها على طاولة المفاوضات أضاع الكثير من فرص السلام في المنطقة.

ولو قُيض للرئيس الأميركي الجديد ولفريق إدارته مراجعة كافة ملفات المفاوضات منذ بداياتها، لتبين لهم أن الأطراف العربية لم تطلب من الأرض أكثر مما يحق لها، أما إسرائيل، وخلافاً للأطراف العربية، فانها تسعى إلى تحصيل ما أمكنها من اراضٍ عربية لا تعود لها، تارة بحجة متطلبات الدين وطوراً بحجة متطلبات الأمن.

لقد اوقعت اسرائيل بيل كلينتون في «شرك» المفاوضات على الارض، ولم يجد لنفسه وسيلة للخروج منه حتى انتهاء ولايته. ولو صرف بعض وقته في السعي للخروج من الشرك الاسرائيلي الذي وقع فيه، لكان احتاح لوقت اقل وجهد اقل ولكان حقق نتائج اكثر.

واذا عرف جورج بوش ان يخرج من «شرك» الارض فان التسوية تتم بأسرع مما يتصور كثيرون. اما اذا دخل في حبائل هذا «الشرك» فاني ارجح انه سيدور في الحلقة المفرغة عينها التي دار فيها بيل كلينتون.

من المتعارف عليه ان نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج. واذا ارادت الادارة الاميركية الجديدة ان تتوصل إلى نتائج اخرى فعليها ان تجعل سياستها اقل انحيازاً لاسرائيل وأكثر عقلانية ازاء العرب.